أعاد خطاب ماكرون في «ليه موروه»، في 2 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، النقاش حول العلاقة مع الإسلام، وعلاقة الأديان مع أسس الجمهورية. الخطاب الحادّ والمباشر من الرئيس الفرنسي وضع التجربة الإسلامية في فرنسا بمأزق. لم يختر ماكرون العبارات الاحتمالية، ولم يقف في المناطق الرمادية، بل أسمع المسلمين رأيه بوضوح؛ بالنسبة إليه ثمة أزمة عميقة في التعاليم وما من حلّ في الأفق؛ إذ تنتصر النزعات الانعزالية، ويتعاظم خطر العداء لقيم الجمهورية، ويعلن خطابه بالضرورة عن فشل القيادات والمؤسسات الإسلامية في مباشرة خطاباتٍ وأفكار يمكنها ردم منابع الانعزال والعداء والكراهية.
مَا مِنْ أمر مخيف بالخطاب؛ فهو لا يصنف المسلمين بقدر ما يعترض على الفشل، ويحذر من الاستمرار بالانزلاق بالكوارث ذاتها التي دمرت أسسهم وتاريخهم وحضارتهم. أسلوب التقريع للثقافة الإسلامية جاء صادماً، لأنه شبيه بالنهايات الأدبية والتصعيد الروائي.
لدى الرئيس ماكرون تجربة روائية واحدة بعنوان «بابل» لم ترَ النور، وهو قارئ للروايات التي تمتلك بُعداً بيكارياً (من بيكارو، التي تعني بالإسبانية «بائساً وماكراً»؛ نوع أدبي وُلد في إسبانيا بالقرن السادس عشر). (كتاب «ماكرون تحت الاستجواب»، من تنسيق إريك فوتورينو). إنه نزّاع نحو الروايات الملحمية والمأساوية.
ماكرون بنى خطابه على أساسٍ ثقافي؛ فهو منظّر بالأساس، على هذا المستوى تأرجح في دراسته بين ميكافيللي (الذي كتب عنه أطروحة) وهيغل (موضوع دبلوم دراساته العليا)، دخل إلى الفلسفة عبر أرسطو ثم كانط، وقضى وقتاً طويلاً في قراءة ديكارت، وتتلمذ على إتيان باليبار، ومن ثم كان المؤثر الأبرز، بول ريكور، وأخذ منه مفهوم التمثيل في ميدان السياسة، ومفهومه حول العنف والشر، وهنا نعود لشيء من حديث ريكور عن الشر، في كتابه عن نفسه «بعد طول تأمل»، يشرح ريكور رحلته المعرفية بين الفلسفات التأملية والتحليلية والفينومولوجية. في حديثه عن بداياته يتوقف عند مفهومه لـ«هشاشة الحد الوسيط المعالج بوصفه الموضع الرمزي لمفهوم اللاعصمة الإنسانية، ويميز بين هشاشة المخيلة التي تتوسط الأفق المتناهي للإدراك والقصد اللامتناهي للكلمة، وهشاشة الاحترام، وهو الوسيط العملي بين تناهي الطبع ولا تناهي السعادة. وأخيراً هشاشة العاطفة المنقسمة بين حميمية الكائن الكئيب وسعة الوجود المنفتح على كلية الأفكار والناس». ما يهمنا قول ريكور: «كثيراً ما يظهر معنى هشاشة الأشياء الإنسانية في إسهاماتي المتصلة بالفلسفة السياسية، وخصوصاً ضمن تأملاتي في مصادر الشر السياسي، على أن الاستعادة الحقيقية لموضوع الإنسان والخطّاء إنما تُلتمس في فصلٍ آخر من كتابي (الذات وكأنها الآخر)». («بعد طول تأمل» ص48)، ثم يتحدث عن الغيرية والآخر في آخر الكتاب.
ماكرون بعد أن فصّل في تأثره بريكور، خصوصاً في مفهوم التمثيل، يصفه بأكثر فلاسفة أوروبا الذين تفكروا بالفلسفة التداولية والتشاورية، ولا ينسى بالطبع الإشارة ليورغن هابرماس. ومن هذه النقطة (بوح الأطراف أو التشاورية أو التداول) ينطلق ماكرون للحديث عن موقع الأديان من الدولة؛ فدورها على التحديد: «وضع الأديان في المكان الصحيح، وليس في تحييدها أو مطالبتها بالتحفُّظ والكتمان؛ فهذا لا يُحتمل، لأن الدولة هي العلمانية، وليس المجتمع». ويضع السلطات العامة أمام واجب من عناصر ثلاثة: «ضمان الاستقلال الذاتي لجميع الأفراد، مؤمنين وغير مؤمنين، ضمان حسن تعايش الأديان بحيث تعبر عن نفسها بجو من الاحترام المتبادل، والأمر الأخير أن تكافح الدولة الآيديولوجيات السياسية ذات الخلفية الدينية التي تحمل فكراً ظلامياً، وتدعو إلى مجتمعاتٍ ظلامية». يضيف ماكرون على الواجب الثالث: «هنا مكمن القلق الحقيقي، حيث توجب على الجمهورية ألا تلين في مواجهة الأفراد الذين يستخدمون الدين لممارسة هيمنة سياسية واجتماعية على الآخرين، وتغيير القواعد الاجتماعية، وقواعد فرنسا».
ماكرون لم يُحمِّل الإسلام، بوصفه ديناً، مآزق المسلمين. وآية ذلك أن أمثلته على الأزمة الكبرى للمسلمين في العالم كانت واقعية، للتعلُّق بتطبيقات شوهدت في المجال العام، وأخطرها النزعة الانعزالية التي يمكن، بحسب ماكرون، أن تسبب لفرنسا كارثتين: إقامة نظامٍ موازٍ، وإنكار للجمهورية. والنزعات المتطرفة لا تقتصر على المسلمين، وإنما على جميع الأديان. إنه يتحدث عن الإسلام المعبَّر عنه من خلال المسلمين، وليس الوحي أو الدين المنزّل.
اليوم تواجه فرنسا مآزق حقيقية في التعامل مع المنظمات والتيارات الإسلامية؛ بلد الهجرات المبكرة للإخوان المسلمين لم يسنّ قوانين رادعة لمؤسسات الإسلام السياسي، مما مكَّنهم من التغلغل والنفوذ داخل الجاليات هناك، والغريب أن تتهم مؤسسة إخوانية، مثل «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، الخطاب بالحقد على الإسلام والأمة(!).
إن النزعة الانفصالية، أو إحياء سلوك «العزلة الشعورية» بين أبناء المسلمين لا يشكل خطراً على فرنسا وحدها، بل على العالم. في فرنسا هذا كله مخطط له منذ سبعين عاماً منذ بدايات تأسيس الجمعيات الإخوانية في فرنسا حتى ظهورها إلى العلن: («اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا» 1983 - «رابطة الطلاب المسلمين في فرنسا» 1989 - «الطلاب المسلمون في فرنسا» 1996).
جلبة المؤسسات الإخوانية ضد خطاب ماكرون تعبر عن هلع حقيقي من إمكانية بدء السلطات للنظر في شرعية جمعياتهم وفروعهم التي تتغلغل بشكل مخيف، حتى في القرى الفرنسية النائية، لذلك فإن ماكرون طرق جرس الإنذار لحماية العلمانية وقيم الجمهورية، وحث المؤسسات على القيام بواجباتها تجاه مخاطر الانفصال والانعزال وتأسيس الكيانات الموازية.
لا داعي لشيطنة خطاب ماكرون. نعم، ثمة أزمة عميقة، وعلى المسلمين كل المسلمين مواجهة الأخطاء ومراجعة الأفكار.
7:44 دقيقة
TT
ماكرون... قيم الجمهورية والجلبة «الإخوانية»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة