د. آمال موسى
وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة في تونس سابقاً وأستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي.
TT
20

الفتنة بورقة الأقليات

استمع إلى المقالة

إذا طبَّقنا الفكرة التي تقول إن لكل شيء إيجابيات وسلبيات، ومهما كان هذا الشيء قبيحاً ومفزعاً فإن ما يحدث في أكثر من مكان في العالم العربي والإسلامي من توترات وصراعات، إنما يكشف في جزء مهم منه عن الأمراض التي لم نفلح في معالجتها والتي تنهش كينونة مجتمعاتنا وتنقلها من أزمة إلى أزمة وتدور في حلقة ممتلئة بالحقد الدفين الذي ما إن يجري تحريكه وتوظيفه حتى يتحول إلى دم وعنف موجع.

بل إن هذه الأمراض غير المعالَجة هي التي جعلتنا لا نبارح ضعفنا، ونصبح فريسة سهلة لأعداء الوجود العربي والإسلامي ومنها يتسلل أصحاب خطة: فرِّق تَسُدْ.

في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي انشغلت بلداننا بالتعليم، وكل بلد وضع مسيرة تنمية تناسب خصوصياته وإيقاعه واستعداداته. ويمكن القول إنه تم قطع خطوات لا بأس بها حتى ولو كان هناك تفاوت بين البلدان العربية والإسلامية في التنوير والتحديث.

ولم تكن مسألة الأعراق والأديان من المسائل التي يُخاض فيها، ولم تمثّل مشكلة في مجتمعاتنا حتى تاريخ اندلاع حرب الخليج وغزو العراق، حيث بدأت تدب الفتنة من خلال إشعال مرة الفتيل العِرقي ومرة الفتيل الديني. وفي الحقيقة فإن مشكلة الأقليات العرقية ما فتئت تمثل الفتيل الأكثر ضماناً لتأجيج الفتنة داخل المجتمعات، وجعل الصراع يدب والعنف يستحكم في العلاقات الاجتماعية على نحو يعيدنا ألف سنة إلى الوراء.

وكلما كانت المنطقة أكثر عرضة للصراعات جرى توظيف ورقة الأقليات العرقية، وهو ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط ويعاد إنتاج الخطة ذاتها بحثاً عن الانقسام والانشغال بصراعات دموية قاتلة الجميع فيها خاسر.

السؤال: إذا كان هناك من يشعل الفتنة ويستخدم ورقة الأقليات العرقية، وهذا صحيح جداً، فهل المشكلة -بلفت النظر عن توظيفها- مصطنَعة أم هي كانت كامنة تحت الرماد؟

نعم من المهم طرح هذا السؤال حتى لا ننشغل بمن يستخدم ورقة الأقليات العرقية لإغراق مجتمعاتنا في الفتنة، وننسى المشكل في حد ذاته ومدى وجوده.

بالمنطق فإنه لا يمكن توظيف شيء غير موجود. إذن المشكلة قائمة بذاتها، سواء كانت تحت الرماد أو فوقه جمراً يشتعل.

السؤال الثاني: ما دامت هذه المشكلة موجودة في جينات الأجساد الاجتماعية فكيف نفسر عدم استشعارها والانتباه إليها؟

نعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال الثاني تحديداً هي سياسية لحماً ودماً. فالأقليات تميل إلى الانزواء والانغلاق خوفاً من الذوبان، وهدفها الأوحد التعايش مع العرق المهيمن، أكان عدداً أم سلطة، من دون مشكلات تُذكر. ذلك أن الأقلية تستبطن الشعور بأنها الأضعف بوصفها أقلية، خصوصاً عندما تكون خارج السلطة، وإذا كانت داخلها فإن كل المعادلة تختلف وتصبح الأقلية هي المهيمنة. بمعنى آخر فإن الموقع السياسي للأقلية هو الحاسم في تحققها الاجتماعي والسياسي أو الركون إلى تحت الرماد.

التجارب التي عرفناها في بلداننا سواء التي كانت فيها الأقليات العرقية مهمشة، اجتماعياً وسياسياً، أو الأخرى التي كانت مهيمنة سياسياً، فإنها ظلت مشحونة بمشكلتها التي لم تُحلّ بالشكل الذي يجب. ورأينا كيف أن الأقلية التي تهيمن سياسياً تظل رهينة استمرار وضعها سياسياً، ومتى تغير الوضع تفقد هيمنتها وتدفع ثمنها في صراعات انتقامية.

إذن؛ لا طوق نجاة في الهيمنة السياسية المتغيرة بطبيعتها، ولا في التهميش الذي يربّي الحقد الاجتماعي، ويجعل الأقلية تلك اليد التي تُستغل في الصراعات الدولية لإضعاف الداخل وخلق الانقسامات وفتح جبهة لتشتيت القوة والهدف.

السؤال الثالث والأخير: هل من مجال لقطع الطريق أمام مستخدمي ورقة الأقليات العرقية ثغرةً اجتماعيةً لزرع الفتنة؟

في الحقيقة هذا الجزء من مقالنا هو أكثر ما يعنينا، لأنه يطرح المقاربة التي تُنجي مجتمعاتنا من شر ورقة الأقليات العرقية.

أولاً، من المهم أن نثمّن التنوع العِرقي بوصفه مصدر ثراء ثقافي وحضاري. ثانياً، الحل الوحيد لكل انحرافات التنوع العرقي والديني هو تركيز المجتمعات والنخب السياسية الحاكمة على فكر المواطنة وقيم المواطنة. فكل شخص هو مواطن أولاً وأخيراً. ذلك أن المواطنة بما تعنيه من عدم تمييز على أساس الجنس أو الدين أو العرق إنما هي إعلاء للانتماء للوطن وتكريس لصفة المواطن وجعلها الرابط الاجتماعي الأوحد للتعايش، ومن ثم فإن المساواة في الحظوظ والفرص تكون مضمونة لأن المواطنة هي المساواة، والأفضل هو الأكثر كفاءة.