جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بريطانيا والخروج من المعترك

مسودة مشروع قانون السوق الداخلية الذي قدمته حكومة السيد جونسون للبرلمان للمناقشة هذا الأسبوع؛ بهدف إجازته ليصبح قانوناً، وصفه في جلسة برلمانية، منقولة مباشرة على الهواء، وزير شؤون شمال آيرلندا بأنه «سوف ينتهك القانون الدولي، لكن بطريقة معيّنة ومحدودة». ثلاثة رؤساء وزراء سابقين (تيريزا ماي، وتوني بلير وجون ميجور) أدانوه لأنه سيمرغ بسمعة بريطانيا التراب دولياً. الاتحاد الأوروبي طالب بتراجع الحكومة، وسحب مسودة المشروع بنهاية هذا الشهر. والبرلمان الأوروبي أعلن أنه سيرفض المصادقة على أي اتفاق تجاري محتمل مع بريطانيا ما لم تقم الحكومة بالتخلص من البنود التي تخرق اتفاق الخروج الموقّع في نهاية العام الماضي. وسائل الإعلام باختلافها، أدانته. والصحف الرئيسية والتابلويد خصصت افتتاحيات طويلة تطالب بإلغائه. تصريح وزير شؤون شمال آيرلندا في البرلمان، شجع أحد المعلقين السياسيين على تقديم نصيحة إلى قادة حزب المحافظين بتغيير وصف حزبهم من «حزب القانون والنظام» إلى «حزب القانون والنظام بطريقة معيّنة ومحدودة».
الأخبار تشير إلى تملل في صفوف نواب حزب المحافظين، رئيس القسم القانوني بالحكومة قدم استقالته احتجاجاً، لكن وزير العدل، والنائب العام، والمحامي العام دعموا الخطوة! ورغم كل ذلك، فإن الحكومة مصرّة على مواصلة السير في اتجاه مخالف للقانون الدولي، نحو خرق الاتفاق الذي وقّعه رئيسها مبتهجاً ومنتصراً في نهاية العام الماضي مع رؤساء الدول الأعضاء في الاتحاد. في نهاية الأسبوع الماضي، وفي اجتماع عبر الدائرة المغلقة، قال رئيس الوزراء جونسون لنواب حزبه بغرض احتواء الغضب، أن إصدار القانون «ضروري لمنع القوى الأجنبية من تقسيم بلادنا». وربما للمرّة الأولى في تاريخها، تلجأ حكومة بريطانية إلى الخروج عن الأعراف والتقاليد البريطانية السائدة وتختار اللعب على المكشوف، بإعلانها عن رغبتها في خرق اتفاق دولي.
مشروع القانون الجديد خيّم، مؤخراً، بظلال معتمة، على آخر جولة من المفاوضات عقدت في لندن، بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بغرض الوصول إلى اتفاق تجاري. ومؤخراً، كشفت التقارير الإعلامية عن مذكرة سرّية معدّة من قبل خبراء رسميين، يحذرون حكـومتهم من أن «الاتفاق الذي وقّعه السيد جونسون لتفادي العودة إلى وضع بوابات حدودية في شمال آيرلندا، سيؤثر على قرارات الدعم الحكومي لشمال آيرلندا، وربما يطال أيضاً بقية المملكة المتحدة». الناطق الرسمي باسم الحكومة حين سئل عن المذكرة تفادى الإشارة إليها. وقال مبرراً، إن الاتفاق تمت الموافقة عليه داخل إيقاع ظروف سياسية غير عادية.
مشروع القانون أعلاه، كما تبرره الحكومة البريطانية، وجد لتمكين وزرائها من تجاوز الموانع التي وضعها الاتفاق الموقّع من قبل رئيسها مع الاتحاد الأوروبي في السنة الماضية بخصوص «بريكست»، في موضعين: 1 - الإجراءات البيروقراطية الجمركية فيما يتعلق بتصدير واستيراد السلع من إقليم شمال آيرلندا. 2 - مسألة تقديم الدعم الحكومي لتأسيس شركات تقنية بريطانية قادرة على المنافسة في السوق العالمية.
فيما يخص شمال آيرلندا، مسألة الإجراءات الجمركية، اقتضتها الضرورة لحلحلة أزمة وضع بوابات حدودية بين الإقليم وجمهورية آيرلندا. وهي الأزمة التي هددت بتقويض اتفاق السلام لعام 1998في الإقليم. ويقضي الاتفاق الموقّع مع بروكسل بضرورة موافقة الطرفين على نوعية السلع غير الخاضعة لإجراءات التعريفة الجمركية. الحكومة البريطانية تريد لوزرائها فقط القيام بهذه المهمة خشية من قيام مسؤولي الاتحاد بإساءة استغلال تفسير تلك البنود عملياً، واللجوء إلى فرض ضرائب على كل السلع البريطانية لدى وصولها إلى شمال آيرلندا.
أما مسألة الدعم الحكومي، فإنه من المفارقة، أن البنود الخاصة به في قوانين الاتحاد الأوروبي، كما تؤكد تقارير إعلامية، صاغها خبراء بريطانيون بدقة، بتعليمات من السيدة ثاتشر، رئيسة الوزراء آنذاك؛ حرصاً على خلق مناخ تنافسي بين الشركات في الدول الأعضاء، ويغلق كل النوافذ أمام الدول للجوء إلى تقديم المساعدات لشركاتها. حكومة السيد جونسون الحالية تريد التنصل من تلك البنود ذاتها، مفضلة عليها العمل باللوائح المعمول بها في منظمة التجارة الدولية. ولتهدئة التوتر قليلاً؛ أصدرت الحكومة البريطانية مذكرة صغيرة أكدت فيها أن الدعم المنتوى للشركات البريطانية لن يكون مشابهاً لما كان يحدث في بريطانيا إبان السبعينات من القرن الماضي. ما سمي الثورة الثاتشرية كان في المركز من سياستها إلغاء كل ما ورثته من إرث يتعلق بدعم الشركات البريطانية المتهالكة، وغير القادرة على الوقوف على قدميها من دون مواصلة الحكومة تقديم الدعم لها، والتخلص من تبعات الكثير من المرافق العامة ببيعها أو منح امتياز إدارتها إلى شركات القطاع الخاص. من خلال خطوة الحكومة البريطانية الأخيرة، تبين جلياً خطأ الاعتقاد بأن السيد جونسون وأعضاء حكومته يمثلون استمرارية لمسيرة السيدة ثاتشر. والحقيقة، كما يوضح معلقون سياسيون، أن الحكومة البريطانية الحالية تصنف تحت خانة حكومات التيار الشعبوي التي ظهرت على خشبة المسرح السياسي الدولي.