تيريز رافائيل
TT

«كورونا» يكشف عن ثغرات لإصلاح الاتحاد البريطاني

يُقال في وسائل الإعلام إن المملكة المتحدة لديها أسوأ ما يمكن أن يوجد في العالم عندما يتعلق الأمر بفيروس «كورونا المستجد». فهناك أعلى معدل مسجل للوفيات جراء الوباء الراهن في أوروبا بأسرها، فضلاً عن أدنى معدلات النمو الاقتصادي بين بلدان مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى.
ومع ذلك، ربما يكون التأثير الأكثر ديمومة لفيروس «كورونا المستجد» يتعلق بالتسوية الدستورية الجارية في البلاد: فلقد أسفرت جائحة الوباء الراهن عن إيجاد فجوة كبيرة وآخذة في الاتساع بين سكان اسكوتلندا من ذوي العقليات الاستقلالية وبقية سكان البلاد.
جاءت استجابة الحكومة الاسكوتلندية لوباء «كورونا المستجد» لتعكس أعلى درجات الكفاءة في مقابل رعونة واضحة وتخبط شديد في القرارات الصادرة عن الحكومة في لندن، الأمر الذي عزز كثيراً من المطالب الداعية إلى استقلال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة. وإن لم يجرِ التعامل مع تلك القضية بكل عناية وحذر، فمن شأن مغادرة المملكة المتحدة لعضوية الاتحاد الأوروبي ألا تكون الإرث الوحيد الأكثر ديمومة للسيد بوريس جونسون، أو ربما أسلوب تعامله المتخبط مع أزمة وباء «كورونا المستجد»، وإنما هو تفكيك الاتحاد البريطاني الذي استمر أكثر من ثلاثة قرون.
اتسمت حركة الاستقلال في اسكوتلندا بحالة من الوهن الشديد في أعقاب الاستفتاء الشعبي الذي أجري في عام 2014، إذ صوت الشعب الاسكوتلندي لصالح البقاء ضمن المملكة المتحدة. بيد أنه وفقاً لاستطلاع جديد للرأي، فإن الدعم الشعبي في اسكوتلندا لصالح الاستقلال تجاوز نسبة 55 في المائة - وما من شك في أن ذلك يرجع إلى التصور المتزايد بأن الحزب الوطني في اسكوتلندا بات يمثل أنموذجاً رائعاً في تحمل المسؤولية، لا سيما عند مقارنته بالأداء المتخبط الذي تتصف به حكومة بوريس جونسون في لندن.
ومرجع ذلك بصفة جزئية إلى آلية الاتصالات ذات المستوى العالمي الفائق التي تديرها السيدة نيكولا ستورجون - وهي الوزيرة الأولى في اسكوتلندا. فإنها تعقد المؤتمرات الصحافية بصفة يومية، الأمر الذي أكسبها مكانة بارزة في المجتمع الاسكوتلندي وفي الخارج، وبرهنت من خلال ذلك على امتلاك قدر من الدهاء السياسي يفوق ما يحرص عليه جونسون في المقابل. فلقد كانت تتصدر المشهد السياسي في بلادها، وتقود التغيرات السياسية ذات الأهمية التي تعقبها فيها حكومة ويستمنستر. ولقد عكس استطلاع للرأي العام أجرته مؤسسة «يوغوف» في منتصف شهر أغسطس (آب) من العام الجاري أن ما يقرب من ثلاثة أرباع سكان اسكوتلندا يعتقدون أن أداء نيكولا ستورجون يندرج بين جيد جداً أو جيد إلى حد ما، في حين أن بوريس جونسون قد سجل نسبة لا تتعدى 20 في المائة في الاستطلاع نفسه.
لكن في واقع الأمر، كان معدل الأداء الاسكوتلندي بالنسبة للتعامل مع أزمة وباء كورونا المستجد أفضل - بصورة هامشية - من معدل الأداء الإنجليزي في الأزمة نفسها. فلقد اتخذ الحزب الوطني في اسكوتلندا عدداً من القرارات ذات الطبيعة المرتدة وتكبد لقاءها نصيباً معتبراً من الحرج والانتقادات. ففي اسكوتلندا، وقعت نسبة 46 في المائة من حالات الوفيات الناجمة عن الإصابة بالفيروس داخل دور الرعاية الصحية - وهي نسبة تفوق بكثير نظيرتها المسجلة في إنجلترا. لكن على العكس من بوريس جونسون - أو مجلس وزرائه - فإن القرارات المتخبطة التي اتخذتها نيكولا ستورجون لم تتأتَ بصورة مباشرة في أعقاب التعهدات العامة بعدم الإقدام على تغيير السياسات، ولذلك ما زال الشعب الاسكوتلندي يملك قدراً كبيراً من الثقة في حكومة بلاده وفي تعهداتها إليه.
ومن أبرز ما يؤيد الحزب الوطني في اسكوتلندا أن عملية التسوية الدستورية في المملكة المتحدة تتسم بقدر كبير من الارتباك والتخبط. ففي تسعينات القرن الماضي، حصلت كل من اسكوتلندا وويلز على البرلمانات الخاصة بهما، إلى جانب السيطرة الذاتية على عدد كبير من المجالات السياسية ذات الطبيعة المحلية؛ من إدارة الرعاية الصحية، ثم التعليم، وحتى النقل والمواصلات. ولقد أتاح ذلك الأمر لستورجون توجيه الانتقادات واللوم ضد حكومة برلمان ويستمنستر - الذي لا يزال يحتفظ بالسلطة الكاملة في العديد من المجالات السياسية المهمة الأخرى - وذلك فيما يتعلق بالمشكلات التي تنشأ بين الحين والآخر، غير أنها لا تنسب الفضل إلا إلى حكومتها الاسكوتلندية في كل ما يتصل بالإنجازات والأنباء السارة.
لقد أماط وباء كورونا المستجد اللثام عن الثغرات الكبيرة في تلك العلاقة إلى جانب تسليط الأضواء على أزمة الثقة العميقة بين اسكوتلندا وإنجلترا التي كانت قابعة وراء الجدران على مر السنوات الماضية. وبات لزاماً الآن على بوريس جونسون أن يعمل على إصلاح الاتحاد البريطاني أو يفقده تماماً وإلى الأبد. وتكمن فرصته المثلى في منح الحكومة الاسكوتلندية مزيداً من الأريحية في تولي الأمور الداخلية في اسكوتلندا، بحيث تتمكن الحكومة هناك من التعامل بصورة أفضل مع حالات الإخفاق في المسائل العامة. ولكن من شأن تلك الخطوة أن تنزلق به إلى منحدر شديد الوعورة على طريق الاستقلال الاسكوتلندي.
منذ انتخاب بوريس جونسون رئيساً لوزراء المملكة المتحدة، ظل يدافع عن الاتحاد البريطاني في خطبه الرسمية وكلماته البرلمانية. وحزبه السياسي - بعد كل شيء - هو حزب المحافظين والوحدويين. وفي زيارة قام بها إلى اسكوتلندا في الشهر الماضي، قال جونسون، مذكراً الشعب الاسكوتلندي، إن خطة الإجازة التي تقدمت بها الحكومة هناك قد ساعدت في المحافظة على 900 ألف وظيفة، كما أن الجيش البريطاني قد ساعد اسكوتلندا عن طريق بناء مستشفى ميداني مؤقت. بيد أن المشكلة تكمن في أن أخطاء بوريس جونسون تسهم في تقويض مصداقيته السياسية، وأن الاهتمام الذي يحاول الإعراب عنه قد فات أوانه وحلت محله حالة من القلق الشديد والواضح.
تعمل حكومة اسكوتلندا بصورة جيدة للغاية ضمن الاتحاد البريطاني، كما يمكنها الإنفاق وطلب المزيد من القروض نظراً لأنها تتلقى التمويل بصفة جزئية من قبل دافعي الضرائب والخزانة العامة في المملكة المتحدة. ويفوق نصيب الفرد من الإنفاق العام في اسكوتلندا نظيره في إنجلترا بنسبة 17 في المائة، في حين أن الإنفاق في إنجلترا هو أقل بواقع 3 نقاط مئوية عن مثيله في اسكوتلندا.
كما أن مغادرة المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي تزيد من صعوبة مطالبات الاستقلال التي تثور في اسكوتلندا بين الحين والآخر، لا سيما لدى الحزب الوطني في اسكوتلندا، لأن ذلك من شأنه أن يخلق مزيداً من الحواجز التجارية مع بقية أعضاء الاتحاد البريطاني. كذلك فإن العضوية الاسكوتلندية في الاتحاد الأوروبي - إن حدثت - فسوف تعني أيضاً تخفيضات هائلة للغاية في الميزانية وارتفاعاً خطيراً في الضرائب داخل اسكوتلندا.
وعلى الرغم من أن المنطق الاقتصادي السليم يتعارض تماماً مع دعاوى الاستقلال في اسكوتلندا، فإن الانجذاب العاطفي إزاء الاستقلال ربما يكون أقوى من المعهود، تماماً كما الحال مع خروج المملكة المتحدة من عضوية الاتحاد الأوروبي.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»