جستن فوكس
TT

معدلات وفيات «كوفيد ـ 19» ظاهرة لا تحدث إلا مرة في القرن

جاء وباء فيروس «كوفيد - 19» بمثابة صدمة مروعة لمدينة نيويورك ـ لكن ما حجم هذه الصدمة تبعاً للمعايير التاريخية؟ حسناً، بدأت السلطات الصحية داخل المدينة في الاحتفاظ بسجلات متسقة لأعداد الوفيات داخل المدينة عام 1804. وفي كل عام، ينشر قسم شؤون الصحة والصحة الذهنية في المدينة رسماً بيانياً لافتاً للاهتمام على غلاف تقرير الإحصاءات الحيوية الصادر عنه، يكشف معدلات الوفاة منذ ذلك الحين، تحت عنوان «غزو الوباء لمدينة نيويورك».
ورغم أن التقرير الكامل لعام 2020 لن يكون متاحاً قبل عامين، فإن قدراً كافياً من البيانات متوافر بالفعل في الوقت الحاضر، كي نتمكن من تقدير المرتبة التي يحتلها فيروس «كوفيد - 19» بين الأوبئة التي عصفت بالمدينة على امتداد قرون.
ورغم أن «كوفيد - 19» لا يرقى لمستوى وباء الكوليرا من حيث قدرته الفتاكة، فمن الواضح أنَّه أسوأ أزمة تعصف بمدينة نيويورك منذ أمد بعيد ـ وذلك مع افتراض أنَّ موجة تفشي الوباء بالمدينة قد انتهت بصورة أو بأخرى. من ناحيتي، توليت تقدير الأعداد المتعلقة بعام 2020 من خلال الاعتماد على إجمالي عدد الوفيات بالمدينة حتى الأول من أغسطس (آب)، تبعاً لما أعلنته المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض واتقائها، وافتراض أن الوفيات خلال باقي شهور العام ستكون مكافئة لمتوسط أعدادها خلال الفترة بين أغسطس وديسمبر (كانون الأول) أعوام 2017 و2018 و2019.
ونتج عن ذلك إجمالي حصيلة وفيات تبلغ 81.524 عن كامل العام، ما يزيد عن متوسط الفترة بين 2017 - 2019 بمقدار نحو 27.000 وفاة. ويفوق هذا التقدير الـ23.641 وفاة التي عزاها قسم شؤون الصحة بالمدينة إلى وباء «كوفيد - 19» حتى الآن، الأمر الذي يعكس مزيجاً من حالات إصابة بـ«كوفيد - 19» غائبة ووفيات من أسباب أخرى يمكن عزوها للوباء والإجراءات التي جرى اتخاذها ضد الوباء والتباينات العشوائية.
ومن أجل تقدير معدل الوفيات، افترضت أن عدد سكان المدينة تراجع ما بين 2019 و2020 بذات المعدل الذي حدث منذ بلوغه ذروته عام 2017 (وذلك طبقاً للتقديرات السنوية الصادرة عن مكتب التعداد). وبالنظر إلى شهادات شفهية تشير إلى نزوح البعض من نيويورك جراء الوباء، فإن المعدل ربما تراجع بمقدار أكبر من ذلك. ومن أجل ذلك وعدد من الأسباب الأخرى، أتوقع أن تقديري البالغ 9.9 وفاة لكل ألف شخص خلال عام 2020 سيتضح في النهاية أنه أدنى من المعدل الحقيقي، لكنني فضلت الخطأ في طرح تقدير متحفظ، بدلاً عن الخطأ في طرح تقدير مبالغ فيه.
وثمة ملحوظة هنا أود الإشارة إليها وهي أن البيانات التي اعتمدت عليها، استقيتها من تقارير الإحصاءات الحيوية المتاحة عبر شبكة الإنترنت من جانب قسم شؤون الصحة بالمدينة وذلك حتى عام 1936، إلا إنني بعد إخفاقي في دفع القسم لإرسال البيانات الأقدم لي، أَدين اليوم بباقي البيانات لعالم الاقتصاد بجامعة روتغرز في نيوآرك، جيسون إم. بار، الذي ساعدني في الوصول إلى جميع البيانات المطلوبة. من ناحية أخرى، ثمة سبل متنوعة لوضع حصيلة وفيات 2020 المتوقعة في سياق تاريخي. عدد الوفيات المقدر بـ81.524 سيكون أقل عن الرقم القياسي للوفيات الذي شهدته المدينة عام 1968، والذي بلغ 91.169. كما أن معدل الـ9.9 وفاة لكل ألف سيضع معدل الوفيات فحسب حيثما كان بالفعل مطلع تسعينات القرن الماضي. ومع ذلك، يتعيَّن على المرء العودة إلى سنوات بعيدة -إلى وباء الإنفلونزا عام 1918- للعثور على زيادة في معدلات الوفيات عن العام السابق بحجم الزيادة في تقديري لعام 2020 البالغ 3.4 وفاة لكل ألف.
وفي تلك الأثناء، تعد الزيادة في النسبة المئوية في معدلات الوفيات الأكبر منذ وصول الكوليرا إلى أميركا الشمالية مطلع ثلاثينات القرن التاسع عشر.
من بين العوامل التي تسهم في تعقيد مثل تلك المقارنات أن وباء فيروس «كوفيد - 19» كان أشد فتكاً فيما يخص الأكبر سناً، الأمر الذي لم ينطبق دوماً على الأوبئة السابقة. عام 1918، 75% من حالات الوفاة المنسوبة إلى الإنفلونزا والالتهاب الرئوي داخل مدينة نيويورك كانت في صفوف البالغين 39 عاماً فما أقل. في المقابل نجد أنه عام 2020 كانت 4% فقط من حالات الوفاة، جراء الإصابة بفيروس «كوفيد - 19» في صفوف البالغين 44 عاماً أو أقل.
وعليه، فإنه قياساً بعدد السنوات التي حُرم منها أبناء نيويورك، نجد أن وباء الإنفلونزا عام 1918 كان أشد فتكاً بكثير -بل ولم تتضرر نيويورك من ذلك الوباء بقدر ما تضررت مناطق أخرى من البلاد.
علاوة على ذلك، فإن هناك أوبئة أخرى معدية وفتاكة، لكنها لا تظهر على الفور في بيانات الوفاة، لأنها تستغرق سنوات حتى تتضح نتائجها. على سبيل المثال، قضى وباء الإيدز على ما يقدر بـ19.840 من أبناء نيويورك، تبعاً لتقديرات مسؤولي المدينة، منذ عام 1982، وجاءت غالبية الوفيات في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات.
ومع ذلك، فإنه من حيث العبء المفروض على كاهل المستشفيات والصدمة الهائلة التي ضربت المدينة واقتصادها، يأتي «كوفيد - 19» بين أكبر التحديات (أو بالأحرى الكوارث) التي جابهتها نيويورك في مجال الصحة العامة على مدار تاريخها. والمؤكد أن قراء تقارير الإحصاءات الحيوية السنوية الصادرة عن المدينة سيظلون يتعجبون من أمر هذا الوباء الفتاك لقرون، مع افتراض أن الرسم البياني سيظل موجوداً على الغلاف، وأن المدينة ستبقى على قيد الحياة، بطبيعة الحال. الملاحَظ أن باقي أرجاء الولايات المتحدة لم تتضرر من وباء «كوفيد - 19» بذات القسوة التي شهدتها نيويورك، وعليه فإن الزيادة في معدلات الوفيات على المستوى الوطني جاءت أقل. ومع ذلك، فإنه على النقيض من الوضع داخل نيويورك، فإن معدلات وفيات ضحايا الوباء لا تزال تشهد تنامياً سريعاً في باقي أرجاء البلاد. وتشير التقديرات شبه الرسمية لحصيلة الوفيات الأميركية من الوباء إلى 176.809. لكن الوفيات المرتبطة بجميع الأسباب كانت بالفعل مرتفعة بمقدار 236.000 عن متوسط الأعوام السابقة حتى 8 أغسطس، تبعاً لتقديرات مراكز السيطرة على الأمراض واتقائها.
ويشير تراجع أعداد حالات الإصابة المؤكدة إلى أن الوفيات ربما تبدأ في التباطؤ قريباً، لكن حتى إذا حدث ذلك -ولم تحدث موجة كبرى جديدة من تفشي الوباء خلال هذا الخريف أو مطلع الشتاء- تظل الحقيقة أننا نعاين صعوبة أكبر وأكبر في تخيل سيناريو لا تصل فيه معدلات الوفيات هذا العام لأعلى عن المعدل الطبيعي المألوف بـ300.000 حالة على الأقل.
وتبعاً لهذا القياس، نجد من جديد أن وباء «كوفيد - 19» الوباء الأكبر منذ وباء الإنفلونزا عام 1918، لكنه في الوقت ذاته لا تمكن مقارنته بالوباء السابق الذي كان أشد فتكاً بكثير. علاوة على ذلك، فإن الزيادة المتوقعة في معدلات الوفيات هذا العام أعلى قليلاً عما كانت عليه خلال فترات اجتياح وباء الإنفلونزا عامي 1928 و1936. جدير بالذكر في هذا الصدد أن الباحثين تمكنوا من عزل فيروسات الإنفلونزا للمرة الأولى في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وبدأت جهود تطوير الأمصال بعد ذلك بفترة ليست بالطويلة، الأمر الذي يسهم في تفسير السبب وراء أن موجات وباء الإنفلونزا أعوامي 1957 و1958 و1968 بالكاد تظهر في الرسوم البيانية الصحية.
فوق هذا، تقدر مراكز السيطرة على الأمراض واتقائها معدلات الوفاة مع تعديل السن، وذلك في محاولة لتصحيح التغييرات التي تطرأ على توزيع الفئات العمرية على مر السنوات. الملاحَظ أن نسبة الأميركيين البالغة أعمارهم 65 أو أكثر، أعلى بكثير اليوم عما كانت عليه من قرن مضى، وهذه الفئة العمرية أكثر عرضة للوفاة من الفئات الأخرى.
وعليه، فإن معدلات الوفاة بعد تعديلها تبعاً للسن تمثل ما كانت لتصبح عليه معدلات الوفاة، لو أن التوزيع السكاني بين الفئات العمرية ظلَّ مستقراً إلى حد ما على مر السنوات، في هذه الحالة مع الاعتماد على العام 2000 بوصفه العام المؤشِّر. من جهتها، لم تصدر مراكز السيطرة على الأمراض واتقائها حتى الآن تقديراتها لمعدلات الوفاة المعدلة تبعاً لعامل العمر عن عام 2019. ولذلك، اعتمدت على تقديرات المراكز للأرباع السنوية المنتهية في 30 سبتمبر (أيلول). وفيما يخص عام 2020، قمت بتعديل من جانبي بالاعتماد على التقديرات السكانية لعام 2019 وتوزيع الوفيات تبعاً للفئات العمرية، حسب ما أعلنته مراكز السيطرة على الأمراض واتقائها لذلك العام.
من جديد، نجد أن الارتفاع في معدلات الوفيات عام 2020 هنا هو الأكبر منذ عام 1918 من حيث النسبة المئوية، لكنه يعيد معدلات الوفاة بعد تعديلها تبعاً للسن إلى النقطة التي كانت عليها عام 2006. وأعتقد أن هذا يعني أنه يتعيَّن علينا جميعاً الابتهاج -فهذا يعني أنَّ الولايات المتحدة معتادة على مثل هذا المستوى في الوفيات حتى عقد ونصف مضى. ومع ذلك، ربما لا يكون هذا الابتهاج مستحقاً بالنظر إلى أن هناك دولاً نجحت في اجتياز أزمة وباء فيروس «كوفيد - 19» دونما زيادة في معدلات الوفيات.
وأخيراً، هناك تلك الفجوة القائمة بين الزيادة في مجمل الوفيات وعدد الوفيات المنسوبة إلى فيروس «كوفيد - 19»، خصوصاً خلال الفترات المبكرة من تفشي الوباء، عندما كان عدد الاختبارات المتاحة أقل. إلا أن بعض تلك الوفيات يمكن اعتبارها ضحايا غير مقصودين: انتحارات وعمليات إطلاق نار وظروف طبية لم تُشخَّص أو تعالَج في الوقت المناسب. وألقى بعض منتقدي إجراءات الإغلاق باللوم على تلك الإجراءات بوصفها السبب في تلك الوفيات، وفي بعض الحالات ربما كانوا على صواب.
إلا أنه اليوم أعادت عيادات الأطباء فتح أبوابها، حتى وإن كان بعض المرضى يخشون ارتيادها، وتبدو الأضرار الاقتصادية والاجتماعية المستمرة ناشئة أكثر عن الفشل في السيطرة على الوباء وليست عن الإجراءات التي جرى اتخاذها للتصدي له.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»