د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

رائعة «تقسيم العمل»

كانت لآدم سميث، مؤسس علم الاقتصاد، مساهمة تاريخية رائدة في الإدارة، قلما يشار إليها بالبنان، رغم أنها غيّرت مجرى العمل الإداري والإنتاجي تحديداً؛ إذ لاحظ أنه في مصانع الإبر كان في مقدور 10 عمال تصنيع 48 ألف إبرة يومياً، إذا ما كانوا ملتزمين بفكرة «تقسيم العمل»، وهي أن يقوم كل فرد بالعمل أو المهمة ذاتها وبصورة متكررة حتى يتقن عمله، وتصبح لديه مع مرور الوقت مهارة سريعة في الإنتاجية. وعندما لا يلتزم العاملون بفكرة تقسيم العمل، ويفعل العامل مهام مختلفة، فإن إنتاجيتهم اليومية سوف تنخفض بصورة مذهلة، أي لا ينتجون سوى 200 إبرة، مقارنة بنحو 48 ألفاً يومياً، حسبما ذكر روبنز في كتاب الإدارة.
هذا المبدأ أطلقه صاحب الإصدار الشهير «ثروة الأمم» الصادر عام 1776م. ومبدأه طواه النسيان لقرون عدة. وبعدما بدأ هدير الآلات ينطلق في عصر الصناعة عادت الروح تدريجياً للمبدأ نفسه؛ إذ كان العاملون يتجمعون حول السيارات في بدايات تصنيعها، فيعمل أحدهم أكثر من مهمة في آن واحد، وهو ما كان يؤخر العمل، حتى دخلت تقنية خط الإنتاج assembly line التي فتحت آفاقاً جديدة للتصنيع، ورفع الإنتاجية، فصار كل فرد يقوم بمهمة واحدة مثل تركيب عجلات، وآخر يركب الأبواب، وثالث يضع «التكسية الخارجية»... وهكذا حتى صارت الآلات تطبق مبدأ تقسيم العمل نفسه. فارتفعت الإنتاجية بصورة فاقت التوقعات.
ومبدأ تقسيم العمل تحول في إدارات كثيرة إلى «فذلكة» أو «فهلوة» فصار البعض يحاول عمل كل شيء بمفرده، إما خوفاً من زملائه المحترفين أو الموهوبين (وهو مؤشر على ضعفه) وإما شكلاً من أشكال التخبط الإداري.
وقد طبّقت شركة السينما في الكويت فكرة قريبة من تقسيم العمل؛ حيث حاولوا مراراً تسريع طابور انتظار بيع الفشار والمرطبات والقهوة؛ إذ لاحظت ذات يوم أن الطابور صار يتحرك بصورة أسرع على غير عادته! وحينما تأملنا ما الذي استجد فلم نجد سوى موظف جديد يسجل طلبات الزبائن الواقفين في الطابور. سألت أحد كبار المسؤولين ماذا فعلتم بالضبط؟ فقال إننا جربنا كل الطرق، طوال الخمسين عاماً الماضية، لتسريع الطابور، فلم ننجح إلا حينما اكتشفنا أن أكثر سبب يؤخر الطابور هو أن الناس لا تتخذ قراراتها بسرعة، فلجأنا إلى «تخصيص» موظف للتأشير أمام الأصناف المكتوبة في قائمة طلبات يقدمها للزبون الذي يسلمها بدوره إلى المحاسب (الكاشير) الذي ألف محتوياتها، فصار يستجيب بسرعة أكبر للطلبات. والأهم أنهم خصصوا موظفين لا يفعلون شيئاً سوى تعبئة المأكولات والمشروبات، ولا يقتربون من ماكينة الكاشير، ليركزوا بصورة أكبر في عمل محدد وسريع. بعبارة أخرى، دفعوا كل شخص للتركيز على عمل بعينة، بدلاً من أعمال متناقضة حتى يعجلوا من وتيرة تقديم الطلبات.
تقسيم العمل مبدأ إداري قديم، لكنه ما زال يقف وراء كثير من الأعمال الرائعة التي يشار إلى دقة جودتها بالبنان.