داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

نكبة بيروت «أمرٌ دُبِر بليل»

تضاربت الأقوال والتصريحات والبيانات والمقالات منذ يوم نكبة بيروت شبه النووية إلى اليوم حول العنبر 12 الذي كان مسرح الجريمة الكبرى. وقبل أن ندخل في التفاصيل، يُعد لبنان البلد الوحيد في العالم الذي يخصص عنبراً في مرفئه البحري الرئيسي لحزب سياسي ديني طائفي هو «حزب الله». وتعلمت الأحزاب السياسية الدينية الطائفية الموالية لإيران في العراق من «المُعلم» حسن نصر الله، وتفوقت عليه بسيطرتها على أرصفة في موانئ العراق المحدودة على مياه الخليج العربي، بالإضافة إلى مخازنها ومستودعاتها الشبيهة بعنابر ميناء بيروت داخل المناطق المزدحمة بالسكان. نحن في هذه النقطة نتحدث عن موانئ قطاع خاص، فلكل حزب أو تيار طائفي أرصفته ومخازنه غير الخاضعة لسلطة الدولة أو الجمارك. وما يحدث في الموانئ العراقية واللبنانية خارج قوانين البلدين وخارج أي سلطة شرعية في العالم، يحدث في مطارات الدولتين الرسمية أيضاً، سواء في بيروت أو بغداد أو النجف أو البصرة أو أربيل أو السليمانية، وتحت أنظار السلطات وموافقاتها.
وقد يتصور البعض أن هذه القطاعات المُقتَطَعة يديرها متخصصون وفنيون ومهندسون وخبراء في النقل البحري والجوي، إلا أن الموضوع ليس كذلك يا سادة يا كرام. فالميليشيات شبه الأمية في البلدين هي التي تسيطر على المنافذ والموانئ والمطارات الجوية والبحرية والبرية على الحدود، بل إن الميليشيات كانت وما زالت تستحوذ على إيرادات هذه الأنشطة من دون أي محاسبة من أجهزة الدولة المتخصصة. وقد خطا رئيس الوزراء العراقي الحالي مصطفى الكاظمي، خطوة في اتجاه استعادة الدولة لمطاراتها وموانئها ومنافذها الحدودية البرية، لكن الأمر في العراق ليس سهلاً، فنحن أمام قراصنة وخارجين عن القانون ومتمردين على الأجهزة الرسمية. واقتصاد الميليشيات الموالية لإيران نشاط علني وسري موازٍ لاقتصاد الدولة، ولذلك فإنها تتمسك بالوزارات «الثرية» مثل النفط والكهرباء والنقل، بالإضافة إلى البنك المركزي لتمكينها من اللعب «على المكشوف» بدلاً من وزارة المالية التي تحددها ميزانية معروفة، وأوجه صرف روتينية، وكتابنا، وكتابكم، ولا تسمح الميزانية.
قرأت تقريراً يقول «إن مطار ومرفأ بيروت يمثلان لـ(حزب الله) ماكينته المالية والاقتصادية والاستخبارية. فمن هنا تمر البضائع الشرعية والممنوعة والأسلحة والمخدرات والمقاتلون والعملاء السريون والوسطاء». وبالسيطرة على الموانئ والمطارات، يؤمن الحزب شبكة تواصل جوي وبحري مع قواعده الممتدة من اليمن إلى أميركا اللاتينية والشمالية، مروراً بالشام والشرق الأوسط، ومن شمال أوروبا إلى غرب أفريقيا، ومن أقصى آسيا إلى أستراليا، وفيها كلها وجود استيطاني لبناني منذ عقود طويلة.
قد لا يعرف كثيرون أن الإيرانيين يدخلون لبنان والعراق وسوريا، بدون ختم جوازات سفرهم في كثير من الأحيان، وكان قاسم سليماني دائم السفر إلى الضاحية الجنوبية، حيث مقر «دولة» حزب نصر الله. ومن بين صلاحيات الحزب في مطار بيروت الدخول إلى المناطق المحرمة في المطار، وتحديد موقع توقف الطائرات الإيرانية وإفراغ أو تحميل شحناتها، وعدم السماح للسلطات المدنية أو العسكرية بالاعتراض على دخول أو خروج شخصيات ذات طابع سري أو عسكري، أو على علاقة بـ«فيلق القدس» الإيراني سيئ الصيت. بجملة واحدة: مطار ومرفأ بيروت في قبضة «حزب الله» منذ سنوات.
وكشفت التحقيقات الأولية أن نترات الأمونيوم تم تخزينها في العنبر 12 منذ عام 2014. وأكثر من ذلك كشفت الإعلامية اللبنانية فاطمة عثمان، أن «حزب الله» يملك في ميناء بيروت «بوابة اسمها (بوابة فاطمة) تدخل وتخرج منها بضائع لا حسيب عليها ولا رقيب». ويتذرع الحزب بأن العنبر 12 خاص بـ«المقاومة»! ولا أحد يرد عليه: ولماذا لا تخزن هذه المواد في الضاحية الجنوبية، حيث مقر الحزب ونشاطه؟ وبأي قانون أو سلطة يُسمح لحزب في أي دولة في العالم بتخزين أسلحة وصواريخ ومواد متفجرة في المطار أو الميناء من دون الحصول على موافقات رسمية عليا أو كشف بتلك المخزونات الخطيرة التي لا يستطيع الجيش اللبناني نفسه خزن مثيل لها في المطار أو المرفأ؟ هذه الحالة شاذة حتى في جمهوريات الموز في أميركا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي التي تحكمها العصابات.
لماذا يدفع سكان بيروت وضواحيها الأبرياء ثمن رعونة وتغول «حزب الله» وهمجيته التي أدت إلى تدمير أجمل عاصمة عربية؟ وكيف لا تصدر حتى اليوم كلمة إدانة واضحة من رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس الوزراء الحالي حسان دياب، إلى الذين يقفون أمام بوابة العنبر رقم 12 المتسبب في المجزرة البشرية التي وصفتها وكالات الأنباء بأنها تشبه قنبلة هيروشيما؟ ولماذا أيضاً يسعى الاثنان إلى إبعاد التهمة عن «حزب الله»، ورفض أي تحقيق دولي يكشف المستور، والدعوة بدلاً عن ذلك إلى تحقيق محلي كأن ما حدث جريمة قتل عادية أو تفجير سيارة أو سطو على بنك. لقد خطف حزب حسن نصر الله تحت شعار «المقاومة» المزعومة لبنان شعباً وحكومة ومؤسسات ومطارات وموانئ. خطف القرار السياسي والاقتصادي والأمني إلى درجة يقال معها إن القصر الجمهوري نفسه صار رهينة الحزب الذي أتى بميشال عون رئيساً للبلاد بعد أكثر من عامين على شغور المنصب الرئاسي. ثم سيطر الحزب على رئاسة الوزراء بعد اضطرار سعد الحريري إلى الاستقالة، ومجيء مرشح عون وحسن نصر الله رئيساً للوزراء. وهكذا أضاف نصر الله رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء إلى ممتلكاته السياسية والتشريعية والتنفيذية.
لذلك فإن رفض الرئيس عون وحسن نصر الله تشكيل لجنة دولية للتحقيق في نكبة بيروت العظمى بحجة «السيادة»، ومطالبتهما بقيام الجيش اللبناني بالتحقيق «أمر دُبر بليل» لإبعاد أي اتهام عن «حزب الله»، المصنف دولياً في قائمة الأحزاب الإرهابية، وتحويل القضية من فعل إجرامي متعمد دمر العاصمة كلها، وقتل أكثر من 300 شخص، وجرح أكثر من 5000 شخص، إلى حادث حريق تبعه انفجار عفوي بسبب الإهمال وعدم توفير الحيطة والحذر!
لقد أكد الخبراء الأجانب اعتماداً على ألوان الدخان والغازات المنبعثة من موقع الانفجار، أن «العنبر 12» كان يخفي صواريخ وأسلحة تدميرية مصدر معظمها إيران، بالإضافة إلى أكثر من ألفي طن من نترات الأمونيوم الشديدة الانفجار. وأن الانفجار نجم عن عمل إرهابي يستبق بأيام معدودة إعلان الحكم الدولي في جريمة اغتيال رفيق الحريري وبعض الوزراء لصرف الأنظار عن الجريمة السابقة، التي حدثت في عام 2005، وتوجيه الاتهامات القانونية إلى أربعة متهمين من أعضاء «حزب الله»، بعد أن توفي شريكهم الخامس.
وصلني تقرير عن السفينة «Rhodes»، التي نقلت شحنة يبلغ وزنها 2750 طناً من مصدر إنتاجها في جمهورية جورجيا إلى موزمبيق افتراضاً، لكنها رست في بيروت، وزعمت أن بها عطلاً، ثم تم افتعال مشكلة قضائية، ليصدر قاضي الأمور المستعجلة قراراً بوقف سفر السفينة، ثم يأمر بنقل المواد السريعة الاشتعال إلى مستودع العنبر 12 التابع لـ«حزب الله» المحمي بحراسة شديدة من ميليشيا الحزب، وغير مسموح لرجال الجمارك أو أمن الدولة أو الجيش بدخوله. ولجأ مدير الميناء بدر ضاهر، إلى الاحتجاج لدى القاضي على تخزين تلك الأطنان الخطيرة، إلا أن القاضي لم يرد. وكرر مدير الميناء التذكير باحتجاجه في أعوام 2015 و2016 و2017، مطالباً بتسليمها إلى الجيش اللبناني، أو إعادة تصديرها، لكن القاضي، وهو الحلقة الحاسمة في الموضوع، لم يتحرك!
وذكر محامٍ لبناني على معرفة بالأمر في تقرير بثه على شبكة التواصل الاجتماعي، أن نترات الأمونيوم يتم استعمالها في صناعة الصواريخ الإيرانية في معامل مجهولة داخل لبنان، وتصدير بعضها إلى ميليشيات «حزب الله» في اليمن والعراق وسوريا. وحاول الحزب تصدير كميات منها إلى عدة دول، بينها الكويت وقبرص وبريطانيا وبوليفيا وألمانيا، إلا أن الجهات الرسمية في هذه الدول كشفت عمليات التهريب وصادرت الشحنات.
البيروتيون لا تهمهم كل هذه التفاصيل، لكن الذي يهمهم هو أين دور الحكومة المفقود في حماية الشعب اللبناني من مغامرات حزب طائفي إيراني التمويل والتوجيه والتسليح والتنظيم؟ كيف تصطف الحكومة مع المتهم الرئيسي «حزب الله»، في رفض لجنة التحقيق الدولية والدعوة إلى تحقيق محلي من قبل الجيش اللبناني يتم تحت ضغوط وتهديدات ميليشيات الحزب وسلطات رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء؟
وخارج سطور هذا المقال، فتش عن إسرائيل؛ المتهم الخبيث في نكبة بيروت إلى جانب الحزب المتهم الذي يموله الإيرانيون، ويعرفه اللبنانيون، كما يعرفه العراقيون والسوريون واليمنيون.