د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

عصا الحكومة وجزرتها

«تحفيز القطاع الخاص»، عبارة تتداول كثيراً في البيانات الحكومية التي تشرح التوجهات المستقبلية للدول، فلماذا تحفز الحكومات القطاع الخاص؟ وبماذا تحفزه؟ وكيف يمكن لهذه التحفيزات تشكيل مستقبل القطاع الخاص في الدول؟
يكون التحفيز عادة فيما يصب في مصلحة الدولة على المدى البعيد، مما قد يغيب عن نظر القطاع الخاص على المدى القصير، أو بمشروعات قد لا تكون ذات جدوى اقتصادية عالية، ويأتي التحفيز الحكومي ليزيد من جدواها الاقتصادي. هذه المحفزات تؤثر بشكل جوهري على نشاط القطاع الخاص، وكثيراً ما كان وجودها عاملاً حاسماً في سلوك القطاع الخاص.
فعلى سبيل المثال، يقدم كثير من الدول محفزات للشركات التي تستخدم الطاقة المتجددة لتقليل انبعاث الكربون، ما ينعكس إيجابياً على البيئة، ولو ترك الأمر بمطلقه للشركات، لما قامت أي شركة باستخدام الطاقة المتجددة، وذلك لارتفاع تكلفتها مقارنة بتكلفة الطاقة المولّدة من المشتقات النفطية. كما تحفز الدول كذلك قطاعات محددة، كالقطاعات الصحية أو التعليمية، وذلك لتخفيف العبء على المرافق الحكومية.
ولعل أحد أكثر أنواع التحفيز الحكومي انتشاراً، التحفيز الحكومي لدعم البحث والتطوير في الشركات؛ حيث يعطي هذا النوع من الاستثمار قيمة اقتصادية مضافة للاقتصاد المحلي، من خلال دعم الصناعات المحلية وصادراتها عالية التقنية، خاصة على المدى البعيد، ويؤثر بالتالي إيجاباً على النمو الاقتصادي، والدراسات تعج بأمثلة كان التحفيز الحكومي أساس انطلاقة الصناعات المعتمدة التقنية العالية. ولولا هذا التحفيز، لأحجم كثير من الشركات عن الاستثمارات القائمة على البحث والتطوير، وذلك لارتفاع معدل الخطر في هذه الاستثمارات بسبب عدم التيقن من نتائجها، وبسبب طول أمد العوائد الذي قد يمتد حتى 10 سنوات من بداية الاستثمار.
ويبين التحفيز الحكومي توجه الدولة، فكثير من الدول تطرح أدوات تحفيزية لدعم توطين الوظائف، أو لزيادة نسبة مشاركة المرأة في قطاعات محددة، أو لزيادة مساهمة المؤسسات المتوسطة والصغيرة في الاقتصاد المحلي، أو لتنشيط الاقتصاد في مناطق جغرافية محددة، حتى لتنشيط قطاعات واعدة كالقطاعات السياحية أو الثقافية. وفي كل هذه التحفيزات توضيح لتوجهات الحكومات ونظرتها المستقبلية.
وحتى تحفز الحكومات القطاع الخاص بما يتناسب مع توجهاتها، تقوم عادة بأمرين، إما الحث عن طريق المكافآت بأنواعها المختلفة، أو الحث عن طريق الغرامات والمخالفات بطرقها المتعددة، بما يعبّر عنه عادة بطريقة «الجزرة والعصا»؛ حيث تعبر الجزرة عن المكافآت، والعصا عن المخالفات. وقد تكون هذه المحفزات على شكل إعفاءات ضريبية ومنح عقارية وضمانات مالية وبنكية وتسهيل للإجراءات الحكومية، أو على الجانب بالآخر على شكل مخالفات مالية، أو حرمان من ممارسة نشاطات محددة، وقد تصل إلى ملاحقات قانونية وإغلاق تام للنشاط التجاري.
ويستخدم أسلوب الغرامات «أو العصا» في الأحيان التي يكون فيها انتهاك لقانون محدد، بينما تأتي الجزرة كمكافأة للالتزام باتفاق أو قانون محدد. وللعصا استخداماتها التي قد لا يكون لها بديل، وللجزرة كذلك مواقف قد تكون فيه السبيل الوحيد. فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن تكافئ الحكومة الشركات التي لا تلوث البيئة بمحفزات مالية، بل يكون التصرف عكس ذلك، فتعاقب الحكومة الشركات التي تلوث البيئة، فالعصا هنا أولى من الجزرة. وعلى النقيض من ذلك، لا يمكن للحكومة معاقبة الشركات التي لا تستثمر في البحث والتطوير، بل إنها تكافئ من يستثمر فيه، والأمثلة على المكافآت والغرامات الموجودة حالياً كثيرة، ويمكن التأمل في نفع بعضها وعدم جدوى بعضها الآخر.
إن الاستخدام الحكومي للجزرة والعصا مع القطاع الخاص حساس للغاية، فكثير من «الجزر» يؤدي إلى اعتماد القطاع الخاص على المحفزات الحكومية، وبالتالي ضعف تنافسيته المحلية وهشاشة قدرته على المنافسة الدولية، كما أنه ينهك ميزانية الحكومة. بالمقابل فإن كثيراً من «العصا» يؤدي إلى إحجام الاستثمار، بل حتى الهروب من السوق المحلية إلى أسواق أخرى منافسة. والتعامل مع القطاع الخاص بهذا الأسلوب يحتاج إلى متابعة وتدقيق مستمر لردة فعل القطاع الخاص من قسوة العصا التي قد تذهب به إلى أسواق أخرى، فهذا القطاع يمثل رؤوس الأموال التي بيدها القيام بالاقتصاد الوطني، بما في ذلك زيادة الناتج المحلي وانخفاض معدل البطالة، ولا توضيح لجوهرية هذا القطاع أكثر من مما أنفقته الحكومات العالمية مؤخراً على دعمه بعد الجائحة.