زين العابدين الركابي
كاتب سعوديّ
TT

... والقضية الفلسطينية.. أين هي؟

((وانكشف الغبار عن 70 ألف فارس)) إلخ.. هذه عبارة كنا نقرؤها مكررة - ونحن صغار - في قصة (الزير سالم).. وهي قصة لا تخلو من خيال، بل كثير من فصولها منسوج من الخيال.. وبالانتقال من الخيال القصصي إلى الواقع السياسي أمكن أن نقول: وانكشف غبار الحراك أو الربيع العربي - كما سمي -. انكشف هذا (الربيع) أو الجدب - عبر سنوات ثلاث - عن دفع أو ركل القضية الفلسطينية إلى وراء وراء: في بؤرة الشعور العربي، وفي واقع السياسة العربية من حيث الاهتمام، وفي أجندات العمل السياسي والإعلامي.
وقد يقال: كيف يمكن أن نفهم هذا الكلام بينما نحن نرى إحياء لمفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين يقودها جون كيري وزير الخارجية الأميركي نفسه؟
والجواب عن هذا السؤال: سؤال أيضا هو: كيف يمكن أن تنجح - بالمقياس الفلسطيني الوطني - مفاوضات تجرى في ظل شقاق فلسطيني مرعب على مستوى الرؤية والقرار، وعلى صعيد الثقة البينية؟.. ثم كيف يمكن أن تنجح هذه المفاوضات والعالم العربي كله - تقريبا - غارق في أزمات محلية لا آخر لها، مستدبر للقضية الفلسطينية أيما استدبار؟
إن هذه الظروف التعيسة البئيسة هي أفضل الفرص التي يجتهد فيها قادة إسرائيل في إملاء شروطهم وقيودهم على الفلسطينيين فإن مما يوازي السلام - في الأهمية والمضمون والتوقيت -: مناخ السلام الزمني، وظروفه المواتية: الذاتية والمحيطة.
هل معنى ذلك: أن الأميركيين لحظوا ذلك فسارعوا إلى استغلاله قبل فوات الفرصة؟!
ربما!!
وربما هناك رغبة أميركية في التخلص من هذا الملف الذي دوّخ الأميركيين كثيرا وطويلا، وأحرج سياستهم الخارجية في المنطقة ثم سؤال آخر مهم: هل معنى ذلك أن ما سمي (الربيع العربي) إنما هو مجرد موجة سياسية (اجتماعية) صنعت صناعة: ابتغاء الوصول إلى التخلص من القضية الفلسطينية بصفة نهائية؟
الجواب بنعم صعب جدا. ذلك أنه رغم النتائج الخائبة للجدب العربي - الذي سمي بالضد -، فإن أسبابه كانت قائمة وهي: الاستبداد.. والفساد.. والعبث بالسلطة والحكم.. وفقدان الإحساس بآلام الناس ومظالمهم. فهذه أسباب موضوعية: ليس من العقل أن يقال: إنها من صنع هذه الاستخبارات أو تلك!
لكن من المنطق فهم أن ذلك الحراك العربي قد وجه إلى ما يفصله عن القضية الفلسطينية بذرائع شتى: ذريعة الوضع المحلي أولا.. وذريعة تطمين إسرائيل ومن وراءها بأن ما جرى ليس معاديا لإسرائيل ولا خطرا عليها.. وذريعة التمكن أولا.. ومن التمكن: بناء علاقات خارجية هادئة وغير استفزازية.. إلى آخر سلسلة الذرائع الدافعة للقضية الفلسطينية إلى وراء وراء!!
والغريب أن نفرا من الفلسطينيين قد اقتنع أو أقنع بهذه الذرائع المتهافتة!!
ونقول متهافتة: لأن هناك ما يجمعها كلها في علة واحدة وهي (الأنانية الوطنية) لمخترعي تلك الذرائع أو لمروجيها، أي أن أوطانهم هي الأهم!!
وفي هذه الحال.. بمعنى أنه ما دام الميزان المنصوب هو (الأنانية الوطنية) فلماذا لا يتشبع الفلسطينيون أنفسهم بجرعات مشبعة من هذه الأنانية الوطنية؟ بل هم أولى بذلك من غيرهم من حيث إن الجميع لديه أوطان مستقلة ما عداهم، أي الفلسطينيون.
إن الروابط الخارجية لأي فصيل فلسطيني يتوجب أن تكون أو توظف في خدمة القضية الفلسطينية. ومن التنكيس العقلي والسياسي والاستراتيجي والواقعي أن يحصل العكس، أي التضحية بقضية فلسطين أو دفعها إلى الوراء في سبيل الروابط الخارجية مهما كان شأنها.
وإذ نعود إلى مباحثات السلام الحاصلة الآن فإننا نثبت بين يدي الحديث عنها منظومة حقائق منها:
أولا: الحقيقة الأولى هي أننا كنا ولا نزال وسنظل من أنصار السلام، وذلك لأسباب كثيرة ذكرناها من قبل في أكثر من مقال، وفي غير مناسبة.
ثانيا: لأننا نرى - كما يرى العقلاء البشر في التاريخ والحاضر - أن (المقاومة) - بشتى صورها - ليست مطلوبة لذاتها. فالقتال ليس أمنية يتمناها المرء دوما، بل القتال - في الأصل - شيء مكروه تكرهه النفوس السوية المؤمنة ولا تحبه ولا تهش له، وإنما تمارسه اضطرارا لدفع العدوان. فإذا زالت حالة الاضطرار: عادت الأمور إلى القاعدة الأساسية للحياة وهي السلام.
ثالثا: الحقيقة الثالثة أن لدى الفلسطينيين (تجربة) لم يستنبطوها من الحرب العالمية الأولى ولا الثانية، بل هي (تجربة فلسطينية ذاتية) وهي تجربة (أوسلو).
إن هذه التجربة المريرة وتداعياتها وآثارها ينبغي أن تكون حاضرة في (الذهن الفلسطيني) وهو يباشر محادثات السلام الجارية.
ومن دروس هذه التجربة: درس أن الإسرائيليين لا يريدون السلام، فرغم أن القيادة الفلسطينية قدمت كل شيء، وغامرت بكل شيء فإن متطرفي الصهاينة قد مارسوا ذات السلوك الذي سبق أوسلو. فقد كان أول معيار لـ(الذهنية الجديدة) هو البدء بالانسحاب من الأرض الفلسطينية في الموعد الذي اتفق عليه، ولكن قادة إسرائيل تنصلوا وتملصوا من ذلك بسهولة، وبعدم اكتراث، ثم لم يلبثوا أن صنعوا لجة لزجة تقيد الأقدام، وتبطئ الخطى: لجة لزجة حول مسألة المعابر. وكلما انتقدوا بسبب ذلك رفعوا شعار كل شيء يحال إلى المفاوضات، وكلما عرضت نقطة في هذه المفاوضات قالوا هذه لم نتفق عليها وتتطلب مزيدا من الدرس والتشاور بهدف أن يمتد الزمن ويطول فيتبخر الاتفاق من ثم ويُنسى فيتحقق المكسب الضخم لهم وهو الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل دون مقابل مكافئ!!!
مهما كانت أهداف الطرف الفلسطيني من أوسلو، فإن من الأهداف الصهيونية - بلا ريب -: احتواء الانتفاضة الأولى 1987 - 1993 (وهو عام توقيع اتفاق أوسلو).. نعم. من أوكد أهداف إسرائيل في هذا الاتفاق: احتواء الانتفاضة الأولى وهي انتفاضة انتظمت الشعب الفلسطيني كله: بفئاته ومستوياته جميعا.. ولقد وثق هذا الإجماع الوطني الفلسطيني في بيان جماعي يعبر عن الإرادة الجماعية لهذا الشعب المكافح الصبور. وقد صدر هذا البيان عام 1988. وهنالك تزلزل الكيان الصهيوني واعتصرته حيرة ساحقة. فانتفاضة شاملة × تصميم وطني قوي × زمن مفتوح = تقويضا لأمن الكيان الصهيوني المحتل.. من هنا كان إجهاض الانتفاضة الأولى، والالتفاف على مقاصدها هما المخرج الوحيد للكيان الصهيوني من ورطته وكربه، ذلك أن المؤسسة الصهيونية قد جربت الحلول الأخرى فلم تفلح في القضاء على المقاومة.
ذلك كله ينبغي أن يستحضره - ويتمثله - المفاوض الفلسطيني لئلا يضيف إلى تجربة أوسلو: مأساة جديدة!!