علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

الإنجليز ومشيخة الأزهر

في النزاع بين الملك والوزارة الائتلافية (حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين) في حق تعيين شيخ الأزهر عام 1927، كان هناك طرف ثالث في هذا النزاع أرجأت ذكره. هو جورج أمبروز لويد الذي كان مندوباً سامياً لبريطانيا في مصر من عام 1925 إلى عام 1928.
يقول الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، مرشح الملك لمشيخة الأزهر في عام 1927: «في أثناء مقام اللورد جورج لويد في مصر، وفي أثناء غلبته هذه وعنفه هذا، توفي المرحوم الشيخ أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر في أواسط سنة 1927 ميلادية، وعندئذ خطر للورد أن هذه فرصة مناسبة لكي يتدخل في شؤون الدين أيضاً، فربما كانت هذه هي الناحية الوحيدة من الشؤون المصرية التي لم يضع أصبعه فيها بعد، وذلك على الرغم من أن تقاليد الحكم الإنجليزي تقضي بالابتعاد عن شؤون الدين».
وقد تحدث الشيخ الظواهري عن الظروف الموضوعية التي نشأت في ظلها صداقة بين الشيخ المراغي والموظفين والساسة الإنجليز الكبار، فقال: «لقد مضى الشيخ مصطفى المراغي مدة طويلة من حياته في القضاء الشرعي في السودان. والموظفون المصريون في السودان بحكم وظائفهم، يختلطون بزملائهم الموظفين البريطانيين هناك، وكثيراً ما تنشأ بين الجميع إلفة ومحبة ومودة من طبيعة الاغتراب. وقد كان المراغي موظفاً مصرياً كبيراً في السودان، فكان طبيعياً أن تنشأ تلك الإلفة وتلك المودة بينه وبين كبار الموظفين البريطانيين وساسته في ذلك القطر الشقيق، شأن باقي كبار المصريين الآخرين، وقد كانت تلك الفترة الطويلة التي قضاها الشيخ المراغي قاضياً في السودان فرصة له واسعة لكي يتعرف فيها على عقلية هؤلاء الإنجليز، ولكي يتفهم مشارب ومقدار تفكيرهم وحكمهم على الأشياء، فلقد تصادقوا، ولقد جلس وتنادم معهم فتبادلوا المودة وارتاح كل منهم للآخر. خصوصاً أن الشيخ قد اشتهر عندهم بسعة العقل والفكر عندما أفتى في إبان الحرب العالمية الأولى، وكانت تركيا قد أعلنت الحرب وقتئذ على بريطانيا، بأنه لا مانع من محاربة المسلم لأخيه المسلم، فقد كانت هذه الفتوى من أسباب استقرار النظام حينئذ في السودان».
هذه الصداقة الوطيدة التي أنشأها الشيخ المراغي مع الإداريين والسياسيين الإنجليز الكبار في السودان حافظ على استمرارها بعد انتهاء عمله في السودان. يقول الشيخ الظواهري عن هذا الجانب ما يلي: «وعندما نقل الشيخ المراغي من السودان لمصر لم تنقطع المودة والصداقة التي نشأت في السودان، بل استمرت هذه المحبة والمودة في مصر أيضاً. وقد حكى وقتئذ الأستاذ محمد شفيق رئيس القسم العربي بدار المندوب السامي البريطاني في مصر، أن اللورد جورج لويد يعز فضيلة الشيخ المراغي رئيس المحكمة العليا الشرعية إعزازاً خاصاً، فإنه لا يمضي أسبوع إلا ويكون فضيلته مدعواً أو زائراً في دار المندوب، وكثيراً ما يتناولان الطعام معاً، ويتجاذبان أطراف الحديث في شتى الشؤون».
يخلص الظواهري من حديثه هذا إلى أنه «كان طبيعياً إذن أنه عندما خلت وظيفة شيخ الجامع الأزهر، وعندما أراد اللورد جورج لويد أن يكون له رأي في المرشح لها كما قدمنا، أن يتجه تفكيره أول ما يتجه إلى الشيخ المراغي، فإنه لم يكن يعرف أحداً من العلماء الأزهريين، ولم يكن من السهل عليه ذلك، فتقدم اللورد جورج لويد لتوفيق نسيم باشا رئيس ديوان الملك، وطلب منه ترشيح الشيخ المراغي».
ينقل الشيخ الظواهري عن مصدر كبير في القصر الملكي وقتئذ تفصيلين من محادثة النحاس مع الملك فؤاد بشأن ترشيح شيخ الأزهر الجديد. التفصيل الثاني الذي حكاه، هو «أن جلالة الملك كان يفكر في ذلك الوقت في ترشيح الشيخ محمد الأحمدي الظواهري لمشيخة الجامع الأزهري، فقد كان جلالته يرى أن الصفات اللازمة لهذا المنصب متوفرة في هذا الشيخ. فأخبر جلالة الملك رئيس وزرائه برغبته هذه، أمّن النحاس باشا على صلاحية الشيخ الظواهري لمنصب المشيخة، ولكنه أضاف أنه يعرف شخصاً آخر يصلح أيضاً ورجا من جلالته الموافقة عليه وذكر لجلالته اسم الشيخ محمد مصطفى المراغي...»، وهنا يقول المصدر: «إن وجه الملك تجهم في هذه اللحظة. فقد تبادر لذهن جلالته في أول الأمر أن هناك تفاهماً بين النحاس باشا واللورد جورج لويد على هذا الترشيح».
يكمل الشيخ الظواهري التفصيل الثاني الذي حكاه مصدر في القصر الملكي بتفصيل ثالث وتفصيل رابع.
في التفصيل الثالث، قال: «انقضى بعد ذلك على هذا الحديث زهاء العشرة شهور بقي فيها المنصب الديني الكبير شاغراً. ولما تساءل الناس عن السبب في ذلك عزي أن هذا إجراء كريم من جانب الملك فؤاد، أراد به إحباط مجهودات اللورد جورج لويد في التدخل في مسائل الدين الإسلامي. فقد كانت هذه طريقة جلالته في الرد على المسائل التي لا تنال منه القبول، يهملها لتموت من نفسها».
وفي التفصيل الرابع قال: «وبعد انقضاء هذه الفترة الطويلة عاد النحاس فطلب من توفيق نسيم باشا أن يلتمس من جلالته الملك التفضل بإصدار أمره الملكي بتعيين الشيخ المراغي شيخاً للأزهر، فإنه يرغب في إرضاء زميليه من جهة، ولأن القانون يبيح لرئيس الوزراء هذا الالتماس من جهة أخرى. وفي هذه الأثناء عاود اللورد جورج لويد الرجاء لتوفيق نسيم باشا أيضاً ترشيح الشيخ المراغي. وهنا أدرك توفيق نسيم باشا صدق فراسة الملك في نتيجة تدخل رجال السياسة في أمور الدين. ثم مراعاة لكل هذه الظروف مجتمعة تفضل جلالته بإصدار الأمر الملكي بتعيين الشيخ المراغي شيخاً للأزهر».
زميلاه اللذان يرغب في إرضائهما، هما: محمد محمود باشا وأحمد خشبة باشا، اللذان أخبرنا الظواهري أنهما صديقان، وأنه كان لهذين الصديقين، صديق ثالث، لا تقل صداقته لهما عن صداقة أحدهما بالآخر، وهو الشيخ محمد مصطفى المراغي.
فالشيخ المراغي في الأصل كان مرشح هذين الرجلين لمنصب شيخ جامع الأزهر.
يقول الشيخ الظواهري في قصة هذا الترشيح: «لقد تطلعت نفس الشيخ المراغي عند خلو منصب شيخ الأزهر لهذه المشيخة الجليلة. ولقد كاشف بذلك صديقيه العضوين بالوزارة، فوافقاه على تطلعه، وكانا رسولي دعاية له عند مصطفى النحاس باشا رئيس الوزارة الائتلافية التي كانا عضوين فيها، فقد كان عليه، وقد خلت الوظيفة بوفاة الشيخ أبي الفضل، أن يتقدم للملك بمرشح لها».
ذكر الشيخ الظواهري، وهو يتحدث عن متانة الصداقة بين هؤلاء الثلاثة، أن أحمد خشبة باشا يمثل حزب الأحرار الدستوريين في الوزارة الائتلافية، والصحيح أنه يمثل حزب الوفد. فهو في ذلك التاريخ كان وفدياً. وقد انضم إلى حزب الأحرار الدستوريين في عام 1929. وربما كان خطؤه في هذه المعلومة منشأه أن أحمد خشبة باشا من الذين شاركوا في تصدع الوزارة الائتلافية، ما أملى على الملك فؤاد إقالة النحاس من رئاسة الوزارة.
وفي عام 1935، كان للإنجليز دور أيضاً في مشيخة المراغي الثانية للأزهر. فلقد نقل الدكتور فخر الدين في مذكرات أبيه الشيخ الظواهري خبراً نشر في جريدة الأهرام «بتاريخ 28/4/1935 تحت عنوان (الرغبات البريطانية)».
الخبر عدّد أربع رغبات بريطانية تحققت.
الرغبة الرابعة هي: «تعيين صاحب الفضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخاً للجامع الأزهر. وهذه آخر رغبة حققت. فقد أعلن أن صاحب الفضيلة الشيخ الأحمدي الظواهري استقال، وأن فضيلة الأستاذ المراغي عين مكانه، وأن أولهما سافر إلى طنطا».
تصدى محمد رجب البيومي في الجزء الأول من كتابه «النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين»، حين ترجم للشيخ المراغي تحت عنوان «محمد مصطفى المراغي: جبهة عالية» لبعض الإسلاميين الذين ينالون منه بسبب صلته الشخصية والسياسية بالإنجليز، من دون أن يشير إليهم بصفتهم التي ذكرتها، للدفاع عنه بمرافعة أدبية عاطفية. ومما جاء في مرافعته قوله: «فقد تجرأ كاتب متسرع على القول إن المراغي كان صنيعة الإنجليز، فغرس بذرة ظالمة أخذت تنمو في صحائف الآفكين، وكأنهم عثروا على كنز ثمين، ينفقون منه ما يشاءون، فكثرت ترهات، وسوّدت صحائف، وراجت أراجيف. ولكن الله يشاء أن يظهر الحق على لسان الأعداء أنفسهم، إذ رأت جريدة (الأهرام) أن تلهي(!) القراء عن واقع مصر الحاضر، بنشر تقريرات السفارة البريطانية عن زعماء الأمس جميعاً، وكانت صراحة لامبسون أقوى من أن تحجب، فقد عرى نفوساً كانت متدثرة بأكثف الطبقات من الملابس الواقعية، ولكنه وقف حائراً أمام المراغي لا يستطيع أن يفتري عليه ما يشين، فلم يسعه إلا أن يقول نقلاً عن جريدة (الأهرام) الصادرة في 20/2/1970:...».
الكاتب المتسرع الذي لم يسمه هو محمد حسين. ففي الجزء الثاني من كتابه «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر»، حين تناول تردد الدعوة إلى إصلاح الأزهر وتأليف اللجان المختلفة لذلك، اعتبرها «مؤامرة قديمة، حاك الاحتلال خيوطها منذ وضع يده على مصر. وهي ذات شقين؛ يستهدف أولهما عزل الأزهر عن الحياة، ويستهدف الآخر إخضاع برامجه لرقابة تضمن إفناء شخصيته وفرنجته، بحيث يصبح الدين تبعاً للحياة وذيلاً لها، يتبعها ويتشكل بها، بدل أن يقودها ويقومها».
وقال في الهامش عن الشق الثاني: «استطاع الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ المراغي من بعده أن يحققا كثيراً من أهدافه - وكلاهما كان على صلة بالإنجليز وبممثلهم في مصر - وقد أثر عن الأخير أنه كان يقول: ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان. وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم». وأحال إلى الكتاب الذي نقل منه هذا القول للشيخ المراغي. وهو كتاب «الإمام المراغي» لأنور الجندي.
الاختلاف مع محمد رجب البيومي أن وصف الكاتب المتسرع لا ينطبق على محمد حسين، وإنما حقيقة الأمر أنه حينما أعد الجزء الثاني من كتابه وأخرجه عام 1958 (الجزء الأول منه أخرجه عام 1954) كان قد حصل له تحول فكري انقلب فيه إلى زمَّيت إسلامي. ولقد خلق عند الإسلاميين اتجاهاً جديداً هو الذي عناه البيومي في مقدمة ترجمته للمراغي بقوله: «لبعض الناس ولع شديد بمهاجمة الشرفاء من الأحرار، واختلاف شتى المثالب المندية اختلاقاً آفكاً كي يلصقوها بالبرءاء».
ولكي أبرهن أنه ليس كاتباً متسرعاً وإنما كاتب ومؤرخ متحامل ومدلس، سأوضح السياق الذي ورد فيه قول المراغي اعتماداً على المصدر الذي نقله منه. وللحديث بقية.