ديفيد ليونهارت
TT

رش الدم على وجه جورج واشنطن

حالة الصخب والفوضى حول هدم التماثيل في الولايات المتحدة بلغت ذروتها عندما رش معترضون الدم على تمثال جورج واشنطن. لقد كان المنظر صادماً وشبيهاً بتدنيس صورة نبي سياسي. لقد سرت قشعريرة في أجساد الوطنيين الأميركيين الذين يرون في واشنطن شخصية مقدسة سياسياً ويقع في قلب الهوية الأميركية واختلطت سيرته في عمق المشاعر القومية.
لقد مثلت إهانة الشخصيات التاريخية فرصة للرئيس ترمب للمماطلة وجر قدميه لتصوير الغاضبين بأنهم حفنة من الفوضويين الماركسيين الساعين لتحويل بلاده إلى فنزويلا جائعة. إن منظرهم الهائج وهم واقعون تحت تأثير لفائف المخدر دعاية انتخابية مجانية له. ولكنه قرر سريعاً هذه المرة معاقبة المعتدين على جورج واشنطن لأن السكوت لا يعني الضعف ولكن ما هو أسوأ، التواطؤ في الخطيئة.
كيف تطورت الأمور سريعاً حتى وصلت لهذا الحد؟ لماذا تُدنّس تماثيل الزعماء وتُحرق الأعلام ويُهان رجال الشرطة ونراهم يركعون على أقدامهم خوفاً من غضب الغوغاء.
هناك إجابتان عن هذا السؤال؛ الأولى أن المحتجين الغاضبين يعترضون على عنف الشرطة ضد المواطنين السود، ولهذا يعبرون عن هذه النقمة بطرق سلمية وأخرى عنيفة. ورغم أن الحقائق لا تقف بصفهم (أعداد أكبر من الشرطة تُقتل كل عام: 49 شرطياً قُتلوا في عام 2019)، فإن الرواية التي يؤمنون بها أهم من الأرقام والإحصاءات.
لكن كيف تشكلت هذه الرواية وأصبحت بهذه القوة التي تدعو بعضهم لهدم بلادهم، وقد رأينا شباناً وشابات بيضاً يصرخون بوجوه رجال شرطة سود ويتهمونهم بالعنصرية؟! من هنا نفهم الإجابة الثانية الأهم عن نفس السؤال. هذه المظاهر في حقيقتها تعبير عن مشاعر قديمة وعميقة بدأت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. في ذلك الوقت الذي تشكلت عقيدة «العداء للأميركية» بعد اكتشاف لحظة ما يسمونها سقوطها الأخلاقي والكشف عن الجوانب المظلمة في تاريخها. تحوّلات ثقافية عميقة بسبب أحداث سياسية مثل حركة الحقوق المدنية التي صورت أميركا حول العالم على أنها مكان للعنصرية الرهيبة مع الصور التي تنتشر حول العالم للطلاب السود الممنوعين من دخول مدارس البيض ورجال الشرطة وهم يمسكون بخراطيم المياه لتفريق المعتصمين. وكذلك حرب فيتنام التي لطخت صورة أميركا المنتصرة على النازية، وبعد ذلك حركات البوهيميين التي عبّرت عن السأم والضجر من الرأسمالية البغيضة.
إضافة إلى مجموعة أخرى من الأحداث التي بُنيت عليها الدعاية التي تم الترويج لها بقوة لخلق مشاعر وأفكار شديدة العدائية واعتبار أن الولايات المتحدة في المخيّلة الشعبية تجسيد محض للشر المنظم وتنطوي على خلل عميق في مبادئها وتاريخها يجب أن يُصحح. إن مثل هذه الدعاية المركزة قادت إلى نزع الشرعية الأخلاقية عن السلطة ليس في الوقت الحالي ولكن تاريخياً، وهذا ما رأيناه في تشويه جورج واشنطن وجيفرسون وغيرهما، فهم ليسوا قيادات تاريخية بل مجرد عنصريين وملاك عبيد. وإذا كان الحال هكذا فالخطوة المنطقية التالية هي إصلاح هذا البلد الغارق في الخطايا وذلك عبر هدمه وتطهيره من الذنوب وبنائه من جديد، كما أشارت النائبة الديمقراطية إلهان عمر التي دعت في خطاب أخير لها إلى تفكيك النظام السياسي والاقتصادي. ليست عمر الوحيدة في موقفها، فهي تعكس صدى لكثيرين يقولون ذات الشيء ويرددون مصطلحات برّاقة فارغة مثل العدالة الاجتماعية والتعددية الثقافية لتكون القيم الجديدة للنظام السياسي والثقافي المنهار أخلاقياً. عندما قرر عدد كبير من اللاعبين عدم الوقوف للنشيد خاف الكثيرون من انتقادهم لأنهم سيصوَّرون على أنهم يقفون مع أميركا العنصرية الظالمة ضد أميركا الخيّرة العادلة التي يسعون لبنائها من الأنقاض (الاتحاد الأميركي أعلن مؤخراً إلغاء سياسة الوقوف للنشيد). وعندما انتقدهم الرئيس ترمب وقدم مؤخراً خطاباً امتدح فيه الآباء المؤسسين أمام جبل راشمور وُصف في الحالتين بالعنصري والساعي لتقسيم البلاد، كما ذكر خصومه في وسائل الإعلام.
هذه الدعاية التاريخية السيئة استخدمها في منطقتنا عناصر الجماعات الدينية المتطرفة وحتى التنظيمات الإرهابية وقياداتها، حيث وظّفوا الدعاية اليسارية الغربية لتسويق عقيدتهم في مواجهة إمبراطورية الشر التي يسعون لهزيمتها وحلفائها في المنطقة (قيادات إرهابية استخدمت في رسائلها مقتطفات من مقالات وكتب لأكاديميين غربيين). وذات الشيء نراه في الخطاب الدعائي العدائي لدول مثل السعودية ومصر التي تحارب الجماعات المتطرفة وتقف أمام مشاريعها التوسعية. إن رش الدم على وجه جورج واشنطن مجرد رمزية لما هو أعمق وأكبر وبالطبع ليس محصوراً بحدود أميركا الجغرافية.
* المدير العام لقناتي
«العربية» و«الحدث»