كانت معظم البلاد العربية تضج برنين النواقيس من جانب، وبصوت الأذان من جانب آخر. وفي أيام الدولة العربية، كانت هناك أديرة كثيرة تحيط بمدينة بغداد.
تردد ذلك في كثير من الأشعار. فقد اعتاد الشعراء المُجّان، كأبي نواس، على الخروج من المدينة، وارتياد هذه الأديرة، وقضاء المساء، أو الليل. وقد تردد الكثير من ذلك في قصائدهم.
من المعروف عن الرهبان أنهم ينشدون الخلوة والعزلة، وتكريس وقتهم للعبادة والتراتيل الدينية.
ولهذا نجدهم في أوروبا يشيدون أديرتهم وصوامعهم في الأماكن المنعزلة، غالباً على قمم الجبال. أما في الشرق، قد وجدوا ضالتهم من عزلة وانفراد وتأمل في البراري والصحراء. هكذا شيد المسيحيون عندنا، منذ عهود الجاهلية، كثيراً من الأديرة، هنا وهناك.
بنوا هذه الأديرة قريباً من الآبار اعتماداً على الماء. ولربما حفروا هذه الآبار بأنفسهم.
نتيجة ذلك أصبحت هذه الأديرة نقطة مرور وملتقى طرق ومزاراً للقبائل.
وكان الناس يسمعون صوت الأذان من المساجد القريبة في وقت، وفي وقت آخر يسمعون صدى النواقيس والأجراس من هذه الأديرة والصوامع. يسمعها المسافرون فيخفون نحوها. انعكس ذلك في كثير من الأشعار:
لما علمت بأن القوم قد رحلوا
وراهب الدير بالناقوس منشغل
شبكت عشري على رأسي وقلت له
يا راهب الدير هل مرت بك الإبل؟
هكذا أصبح الراهب ضابط استعلامات للمسافرين. فهو من نافذة صومعته يراقب ما يجري حوله.
ويسجل في ذاكرته كل ذلك. والظاهر، كما نستشف من هذين البيتين، كان القوم يعتمدون عليه في إعطائهم ما يلزمهم من معلومات. لم نسمع أو نقرأ عن أي محاولة من الراهب التبشير بديانته، أو التأثير عليهم.
بيد أن العلاقات بينه وبينهم كانت في غاية الطيبة، كما نجد في القصيدة الفريدة. يقول الشاعر:
فحن لي وشكى وأنّ لي وبكى
وقال لي يا فتى ضاقت بك الحيل
إن البدور اللواتي جئت تنشدها
بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا
قلما يجد الإنسان عواطف جياشة وشفقة أصيلة، كما يجد في هذه القصيدة. فلا عجب أن اقتطفها الفنانون، وراحوا يرددونها في غنائهم حتى اليوم.