سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

قصة كتابين وكاتب: الحظ الوحيد سواد الشَّعر

ويتساءل الكاتب الصحافي يوسف الشريف في مؤلفه «كامل الشناوي آخر ظرفاء ذلك الزمان»: هل كان كامل الشناوي صحافياً؟ هل كان أديباً؟ هل كان شاعراً؟ هل كان فناناً؟ هل كان فيلسوفاً؟ هل كان مفكراً أو مؤرخاً أو محدثاً أو ظريفاً؟ ويجيب الشريف بعد ملاصقة حميمة للظاهرة الثقافية الفريدة لمدة دامت أكثر من ثمانية أعوام، بأن كامل الشناوي كان كل ذلك في ذلك كله. هذا بينما يحلل كامل الشناوي ذاته بالأرقام من واحد إلى عشرة فيعطي نفسه في الشجاعة 6، وفي الصدق 8، والخجل 9، والغيرة 7، والغضب 2، والأناقة 1، والشكل صفر، والحب 10. وتسأله أقدر المذيعات آمال فهمي: ما الشيء الوحيد الذي جاملك فيه الزمن؟ فتأتي إجابته: سواد شعري. فرغم قوله في قصيدته «عيد الميلاد» التي غنّاها فريد الأطرش وكان فيها «جئت يا يوم مولدي، جئت يا أيها الشقي، وعلا الشيب مفرقي»، فإنه ظل يحتفظ بسواد شعره بدون صبغة حتى النهاية رغم أنه كان يغسله يومياً بالكولونيا. وربما كان كامل الشناوي أيضاً يغسل بالكولونيا جيوبه الخاوية، فقد كان كريماً لحد السفه لتطارده متاعبه المالية فتغدو لازمة لحياته، فهو الذي لم يمتنع يوماً عن إقراض صديق، أو زميل محتاج للعون، وكان يدفع لكل من يشاركونه السهر، ولا ينسى في الليالي التي يسهر فيها، وهو رئيس تحرير، أن يطلب العشاء لمن معه قد يصل إلى 100 ساندويتش للزملاء وعمال المطبعة، وهو الذي لم يعرف يوماً كيف يحدد علاقته بالمال ولا إذا ما كان يكرهه أو كان يهواه، فكلما عضّه الإفلاس لجأ إلى حقن نفسه بمصل السلف حتى كان الصحافي الوحيد الذي مات مديناً لـ«الجمهورية» و«أخبار اليوم» بسبب القروض، حتى إنه كان يقبض راتب 6 أشهر مقدماً، وبينما كان غيره يحصلون على المال ويحددون إقامته في عمارة أو أرض أو سهم أو سند أو رصيد، كان ابن الشناوي ما يكاد يلقي قبضته عليه حتى يطلق سراحه ليركض. لا يسأله إلى أين ولا متى ستعود.
وبقيت تعبيراته نصطادها من الهواء. مثلما قال عند لقاء النجمة الحسناء: ازيهم كلهم؟ فردّت عليه: مين همّا يا كامل بيه؟ فقال: شعرك، عينيك، شفايفك، صوابعك. وقال إن الصيدليات ستقفل أبوابها لأن أغاني شادية علاج لكل الأمراض، وإن سلوى حجازي المذيعة بلغ من رقتها أنها كانت قبل أن تفتح درج مكتبها تستأذنه: تسمح لي أفتحك.
ولم تزل زلزلة كلماته الهادرة تهيب بنا تنشد الحرية في لحن لعبد الوهاب ظل محبوساً في أدراج الإذاعة حتى قيام الثورة. أرضك الحرة غطاها الهوان وطغى الظلم عليها وعليك، وكنت في صمتك مرغم، كنت في حبك مكره، فتكلّم، وتألّم، وتعلّم كيف تكره!