عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

لا بديل عن صفقة مصرية ـ إثيوبية

في كتاب «فن الصفقة» (2016) يشرح دونالد ترمب (وتوني شوارتز وتخصصه إدارة أعمال)، التفاوض للحصول على أفضل الشروط.
الصفقات، بين رجال الأعمال، أو الدول، ليست مباراة رياضية تنتهي بمنتصر ومهزوم، بل مشروع مفيد لشريكين؛ فالطرف الآخر شريك لا عدو في معركة حربية. حاجة الطرف الآخر لما لديك يدعم موقفك، في تكتيك ترمب التفاوضي، بجانب قناعته بعدم حاجتك إتمام الصفقة إذا لم يرضِك العرض.
أعدت قراءة الكتاب، وقراءة خلفيات بحث كتابي «حروب المياه: الصراعات المستقبلية في الشرق الأوسط» الصادر في 1993 بالإنجليزية في لندن ونيويورك، لموازنة الموقفين المصري والإثيوبي ونوعية الصفقة الحتمية حول مياه النيل.
تصعيد غير مفيد، في وسائل صحافية عمومية مصرية، واتهامات على صفحات المصريين وحلفائهم على وسائل التواصل الاجتماعي بمؤامرة سياسية لإيذاء مصر والاستيلاء على حقوقها من المياه، مع تسرع إثيوبي غير حكيم في التلويح باختصار الفترة الزمنية لملء خزان سد النهضة. وكنت مشاركاً في لجان لحل أزمة مشابهة في ثمانينات القرن الماضي بين تركيا (دولة منبع) في مواجهة سوريا والعراق، حول فترة ملء خزان سد أتاتورك.
ملء الخزان في ثلاثة أعوام بدلاً من ثمانية يعني فارقاً هائلاً ليس فقط في كمية تحرم منها مصر والسودان، بل تقلل سرعة التدفق المعتادة في النيل (2830 متراً مكعباً في الثانية) نتيجة فارق ارتفاع 1134 متراً بين المنبع والمصب بتأثيرات على توليد الكهرباء، والبيئة.
صفقة إثيوبية مصرية أمر حتمي، لأنه أفضل من تهديدات في الصحافة وتطوع البعض بأفلام دعائية تصورية حول تدمير السد، وقد تحول الرأي العام العالمي في اتجاه معاكس إذا وصلت الأزمة إلى التحكيم الدولي. أليس هناك دراسة للتاريخ لتعلم الدرس باهظ الثمن للحصار البحري في 1967؟
ولنتخيل أن لمصر التفوق العسكري الذي توفر أيام محمد علي باشا (1769 - 1849) والخديو إسماعيل (1830 - 1895)، وسكت المجتمع الدولي، فما هو شكل «الانتصار العسكري»؟ ضم إثيوبيا بالقوة لتصبح «الإقليم الجنوبي» في «الجمهورية النيلية المتحدة»؟
فلنبق في أرض الواقع، مصر بحاجة لإبقاء قدراتها لمواجهة تهديد الإرهاب شبه المؤكد من الغرب بعد دخول تركيا ليبيا، ولتركز على المفاوضات بالطريقة الترمبية الشوارتزية.
مصر و97 في المائة من مواردها المائية من النيل أضاعت فرصة التفاوض (منذ الخمسينات حتى 2011) بتكتيك ترمب عندما كان لديها ما تقدمه لإثيوبيا.
عدم التوازن الهيدروليكي - الاقتصادي في حوض النيل، كررت الإشارة إلى معالجته في محاضرات ومقالات ما بين 1993 و2008 (كان رد فعل بعض المسؤولين المصريين «أنت عملت لنا مشكلة بالكتاب بتاعك»!).
اقترحت سابقاً معاهدة مع إثيوبيا لتوفير منتجات زراعية، وغذائية ومصنوعات مصرية وكهرباء ووسائل مواصلات بأثمان أقل كثيراً مما يكلفها سد النهضة، والمشاركة في مشاريع توفر وظائف على أراضيها. معاهدة «الدولار المائي» (مع بلدان حوض النيل)، فإثيوبيا كبلد منبع ستجني فوائد إيداع دولاراتها المائية في البنك المصري الذي يستثمرها في زراعة وكهرباء وصناعات.
مصر تستهلك 80 في المائة من إجمالي مياه النيل القادمة من خارج حدودها، وهي مثل السودان، لا تنبع فيها مياه تضاف إلى النيل.
التوازن الهيدروليكي اليوم لا يقنع إثيوبيا بجدية مصر في التهديد بترك المفاوضات بطريقة ترمب، لكن هناك بدائل تقوي موقفها مستقبلاً بما تستطيع مصر عرضه، فليس لإثيوبيا منافذ على البحر، والتعاون في بناء خط السكة الحديد الأفريقي من الإسكندرية ومدن القناة إلى السودانَين وإثيوبيا، يدار بقوة كهرباء السدين العالي والنهضة، كلها مشاريع مستقبلية، لكن لا بد أن يسبق العرض خطوات أخرى.
85 في المائة من مياه النيل من هضبة الحبشة موسمياً (يونيو/ حزيران - سبتمبر/ أيلول يسقط أثناءها 70 في المائة من كل مياه الأمطار السنوية)، يتدفق 59 في المائة منها بطول 850 ميلاً في النيل الأزرق و41 في المائة وبطول 800 ميل في نهر عطبرة؛ ليصل إلى السودان 45.9 كيلومتر مكعب متوسط سنوات أقصاها 79 كلم مكعب في 1909 - وأقلها 20.6 كلم مكعب في 1913.
النيل الأبيض يساهم بـ15 في المائة من المياه عند لقاء النيلين في الخرطوم، فرحلة 2300 ميل من الهضبات الاستوائية يقطعها 57 ألف كلم مربع مستنقعات السد وتضيع المياه بالتبخر. السير ويليام غاريستين (1872 - 1947) وكيل وزارة الأشغال المصرية (كانت مصر والسودان شمالاً وجنوباً بلداً واحداً) أراد في 1907 التغلب على المشكلة بحفر قناة تزيد من تدفق النهر فتقلل من التبخر مياهاً تكفي لاستصلاح مليوني فدان. ولم تدرس الحكومة المصرية المشروع للتطبيق إلا في 1946 وبدأ المهندسون رسم خطط قناة جونغلي بطول 224 ميلاً بين 1954 - 1959. بدأ الحفر في 1978 لمسافة 149 ميلاً وتوقف في 1984 بسبب الحرب الأهلية التي انتهت بانفصال جنوب السودان. القناة عند اكتمالها ستوفر للنيل 3.5 - 4.8 بليون متر مكعب سنوياً، مساوياً ثلثي إلى 102 في المائة من مياه فيضان هضبة الحبشة، بمعدل تدفق 110 - 152 متر مكعب في الثانية، زيادة 7 في المائة في السرعة عند أسوان، مما يقلل نسبة مماثلة من المياه المستمرة لزوم لتوليد الكهرباء.
قناة جونغلي - المرحلة الثانية ستوفر 3.2 بليون متر مكعب؛ أما مشروعات بحر الغزال الجديدة (عدة قنوات وتقوية الضفاف لتسريع التدفق) ستضيف 4 بلايين متر مكعب سنوياً. المشاريع توفر لمصر وبلدَي السودان، بصفة دائمة، ضعفي كميه مياه الفيضان من هضبة الحبشة. هذا يقنع إثيوبيا بقدرة مصر على رفض الصفقة إذا لم تلائمها الشروط حسب بـنصيحة ترمب.
لا يوجد أعداء أو حلفاء دائمون، وإنما مصالح دائمة كحقائق الجغرافيا مثل جيران النيل الدائمين. تحمل مصر 90 في المائة أو كل تكاليف مشاريع زيادة تدفق مياه النيل الأبيض في جنوب السودان والمشاريع المكملة في شماله، كالسكة الحديد ووسائل نقل المعدات ثمن بسيط، مقارنة بتكاليف الصراع العسكري. مشاريع البنية التحتية دائمة المنافع وتحسن الأحوال الاقتصادية فيما كانتا يوماً مديرية بحر الغزال والمديرية الاستوائية في بلد واحد، مشاريع تخلق وظائف لأحفاد جنود بواسل اختلطت دماؤهم بدماء إخوتهم المصريين تحت علم واحد دفاعاً عن مصالح أمة وادي النيل.