د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا والحاجة للمصالحة وجبر الضرر

ليبيا بعد سنوات الجمر والفوضى والحرب، في أمسّ الحاجة للتصالح وإصلاح ما أفسدته الفتنة والقتال والاحتراب، تنوَّعت فيها الأسباب والأهداف، ولكن توحَّد فيها الضحايا، وهم ليبيون شرقاً وغرباً وجنوباً، منهم من قُتل بأيدٍ ليبية، ومنهم من قتل بأيدٍ عابرة للحدود، تنوعت بين مرتزق للمال ومرتزق للفكر، لكن الضحية كان ليبيا دائماً.
ولعلاج الحالة الليبية، لا بدَّ من الشروع في مصالحة وطنية شاملة والابتعاد عن المطالبة «بكليب حياً» فحالة التعنت وتغليب الذات على الوطن، التي لا تجدي نفعاً في حلّ أي إشكال، أو اختلاف في الرؤى، هي انتحار. وتغليب مصلحة الوطن هي الطريق الصحيح نحو بناء وطن للجميع خالٍ من الإقصاء والتهميش.
ليبيا اليوم في حاجة إلى بناء المؤسسات وإعداد مشروع نهضوي، ضمن استحقاقات الانتقال من الثورة إلى الدولة، وهو الناجع والأكثر فائدة لليبيا الجديدة، بدلاً من الخطب الإنشائية التي في أغلبها فشلت في استقراء الحالة الليبية، بل تعدتها إلى إذكاء النعرات الجهوية والقبلية، وبقيت مشروعاتها للنهوض بالدولة مشروعات خجولة في جلّها، مقتبسة من الغير، ولا تبحث في الأسباب، بل محاولة تجاهل المشكلات الموروثة من نظام استبدادي، من دون الاكتراث بحلّها أو الوقوف عندها، ما قد يشكل عائقاً يدفعنا للوقوف عند مفترق طرق ونحن نمر بمرحلة مخاض عسير تتبلور فيها الرؤى، فالليبيون اليوم في أمس الحاجة لكتابة العقد الاجتماعي «الدستور»، حتى تتحول البلاد من حالة الثورة إلى الدولة الديمقراطية التي تؤمن بحق المواطنة كاملاً لليبيين كافة.
اختزال ليبيا، ورهن إرادة شعبها في إطار حزبي ضيق، يحمل بعضه أفكاراً ورؤى وولاءات خارجية، ثبتت فشلها في بلدانها، يجعل من محاولة استنساخها في ليبيا مرفوضاً بالمطلق، فحرية الإرادة التي هي سلوك الإنسان وتصرفاته تنبع من إرادته الحرة بالكامل من دون تدخل من أي طرف. هذا هو الطريق الصحيح لبناء وطن فيه الفرص متاحة للجميع، والبدء في التأطير السياسي وبناء المؤسسات وإعداد مشروع تنموي، ضمن استحقاقات الانتقال من الثورة إلى الدولة، فالوطن ليس كلمة، أو تعبيراً إنشائياً أو مضافاً إليه في أي مسمى حزبي أو مؤسساتي.
الوطن يلتمس طريقه نحو بناء دولة الجميع، يكون المرء فيها مواطناً حراً له كامل حقوق المواطنة مكفولة بالدستور، من دون الحاجة إلى ملء استمارة انتماء حزبي، أو فئوي لينال حقوقه.
ليبقى جبر الضرر أو التعويضات عن فترة ظلم سابقة، خطوة مهمة للتصالح ونسيان آلام الماضي، فالأصل أن كل فعل خاطئ تسبب في ضرر للغير، يوجب مسؤولية فاعله عن تعويض، وليس بالضرورة أن يكون التعويض أو جبر الضرر بالمال، فقد يكون بالعمل على إعادة تأهيل «الضحايا» السجناء نفسياً واجتماعياً ووظيفياً وتأمين حياة أفضل لهم.
في ظل البحث عن نظام حكم، لا يكرر منهج التهميش والإهمال، عبر الحكم الشمولي المركزي، ولمنع التهميش والانفراد بالسلطة عند حكومة المركز، ظهرت مطالبة البعض بالحكم الفيدرالي.
الفيدرالية يمكن أن تكون الحل، في ظل حالة الاحتقان والاصطفاف غير المسبوقة في ليبيا، بعد تفشي خطاب الكراهية وانعدام الثقة بين الأطراف، فالفيدرالية شكل من أشكال الحكم السياسي، الممكن في ليبيا لتفادي التقسيم، بحيث تكون السلطات فيه مقسمة دستورياً بين حكومة مركزية ووحدات حكومية، بحيث تقوم السلطة الفيدرالية بإحكام السيطرة على التقسيمات المناطقية للسلطة كافة.
حلّ أزمة ليبيا لا بد أن يكون تفاوضياً، وليس عبر الاستقواء بالغريب، الذي سوف يعقد الأزمة، ولا يقدم حلاً بل يضع العصا بين دواليب العربة ويعرقل فرص الحل السلمي.
فالمصالحة الوطنية تبدأ حيث انتهت الحرب، وتوقف القتال، وسكتت البنادق والمدافع، ومغادرة المرتزقة كافة البلاد، وجلوس الليبيين من دون غالب أو مغلوب على طاولة واحدة، فلا يمكن تحقيق مصالحة وطنية بغالب ومغلوب.