خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ثمن جريدة

كانت النفقات في أيام الخير، أيام العهد الملكي في العراق، مقننة على المسؤولين إلى حد الفلس. وكثيراً ما كانت تجري مناقشات طويلة بشأن أتفه المبالغ. وهو ما حدث للسيد نجدة فتحي صفوة عندما كان في وزارة الخارجية مسؤولاً عن قسم الدعاية والصحف. فاجأه الفرّاش يوماً وقال له إن الوزير يريد مقابلته. استغرب من الطلب فلم يكن من شأن الوزير أن يطلب من رئيس شعبة صغيرة أن يأتي إليه. لكنه ذهب فوجد معالي الوزير الشابندر في حالة عصبية.
سأله «أنت مسؤول الصحف؟» قال «نعم، أنا». فقال له «هل قرأت في الأيام الأخيرة جريدة (الاراكي تايمز)، الأوقات البغدادية التي كانت تصدر باللغة الإنجليزية؟»، فأجابه بالنفي. لم يقرأها ولم يطلع عليها. فزاد الوزير غضباً «كيف ذلك؟ وأنت مسؤول الدعاية والصحافة في هذه الوزارة ولا تتابع ما تكتبه (الاراكي تايمز)، يشتمون إخواننا العرب وأنت لا تدري؟!»، أجابه الأستاذ نجدة قائلاً، من أين له أن يتابع ذلك والجريدة لا تصله مطلقاً. «فالوزارة مشتركة بنسخة واحدة من هذه الجريدة، وأنت يا معالي الوزير تأخذ هذه النسخة الوحيدة».
عجايب، قال له الوزير. يعني أنت ما تقدر تشتري لنفسك نسخة وتقرأها وتشوف اللي يكتبون. أجابه نجدة فتحي صفوة قائلاً «معالي الوزير، أنا موظف صغير وراتبي محدود. ياالله أدبر معيشتي. أنت اشترِ الجريدة وخلِ نسخة الوزارة إلي. وبعدين حاسبني على المكتوب فيها».
لاحظ حتى وزير الخارجية، أن في جواب الموظف شيئاً من المنطق والعدل. لم يقل له كيف تتجاسر على هذا الكلام وتتحدى الوزير بهذا الجواب. هز الأستاذ الشابندر رأسه في قنوط ثم نادى على رئيس الحسابات. سأله إذا كان في مخصصات الدعاية ما يكفي من مبلغ لطلب نسخة ثانية من جريدة «الاراكي تايمز». ذهب رئيس الحسابات وفتح الدفاتر ودقق الأرقام. ثم قال للوزير ممكن نحول لها مبلغاً من المتفرقات. وهو ما جرى، فتم تخصيص نسخة ثانية من «الاراكي تايمز» لمدير الدعاية والصحافة.
ولكن نجدة صفوة عاد فسأل الوزير عن المسألة التي أفضت إلى هذه النعمة، نعمة تخصيص جريدة له. قال له الوزير: اسمع. هذه الجريدة يسيطر عليها الإنجليز ويكتبون فيها ما يعجبهم. وما يعجبهم غير ما يعجبنا. وهي جريدة صادرة في العراق وما تقوله يتحمل هذا البلد مسؤوليته.
جرى ذلك الحوار والسؤال والجواب في الخمسينات، عندما كان المجاهدون الجزائريون يخوضون حربهم المصيرية ضد الاستعمار الفرنسي. وبالطبع كان العراق من أكثر الدول العربية تحمساً ومساندة لنضال إخواننا الجزائريين، وكان يتبرع لهم بمبالغ سخية سوية بما كانت الدول العربية الأخرى تفعل مثل ذلك. وفي هذه الظروف لاحظ الوزير أن جريدة «الاراكي تايمز» كانت تشير للمجاهدين الجزائريين بكلمة «عصاة» أو متمردين (رَبلز) طلب على الفور مدير الدعاية والصحافة أن يتصل برئيس تحرير الجريدة ويلفت نظره لهذه الإساءة لمشاعر الجمهور العربي وموقف الدولة. وهو ما كان. وبينما كسبت الجزائر هذا التصويب لصفة نضالها، كسب الأستاذ نجدة المخصصات اللازمة لشراء نسخة من الجريدة.
لا أذكر كم كان، عشرة فلوس أم عشرين فلساً؟. وكلها لقاء وصل وذكر في دفاتر الوزارة، وربما مع موافقة وزير المالية وديوان الحسابات، وكله حسب مبدأ الحسقلة الذي أشرت إليه مؤخراً!