إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

عن الشاعر حجازي

بلغ الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، هذا الشهر، عامه الخامس بعد الثمانين. وقد أنبأنا زهير بن أبي سلمى، الشاعر الجاهلي الحكيم، بأنه سئم تكاليف الحياة لأن «من يعش ثمانين حولاً... يسأمِ». ويمكن للمرء، في زمننا الحاضر، أن يسأم أو يتعب أو يقرف أو يصاب باليأس أو بعشرين سبباً آخر من تكاليف الحياة. وقد يملّ الشاعر الشعر، أو يستنفده، أو يهجره، أو يحبسه في صدره فلا يجاهر به. لكن ما في رصيد حجازي من قصائد ومواقف واشتباكات يكفي لطرد السأم وأخواته.
أتذكره قبل ثلاثة عقود، يرتقي الدرج الخشبي لعمارة عتيقة في جزيرة «سان لوي» وسط باريس، وهو يدوزن مطلع القصيدة، قاصداً شقة الرسام بهجوري في الطابق الأعلى: «سلّمك العالي، إلى أين يؤدي؟ درج يصعد والروح تحنّ للقرار». اجتمعنا هناك بترتيب من الوزير محمد بن عيسى، لعقد «مصالحة» بين حجازي وأدونيس. وكان المطلوب مني توفير جهاز تسجيل وكاميرا لتوثيق الجلسة. كنا في أيام الشرائط و«الكاسيت» ولم نكن نعرف الهواتف الجوالة. لكن تلك المصالحة حكاية أخرى ليس هنا مجالها.
التقيت الشاعر مراراً، في الندوات التي كانت تقام في المركز الثقافي العراقي، أو في مواسم أصيلة المغربية، وأحياناً في الحافلة رقم 21 حين كان يقيم في الدائرة الثالثة عشرة من باريس. ورأيته يحضر حفلة موسيقية في معهد العالم العربي، وكان رأسه، من بين كل الرؤوس، يدور مع النغم. إنها طريقتي في تمييز المستمع العربي العارف بأسرار الطرب. فالمستمع الأجنبي يتلقى الموسيقى وهو تمثال. لا يقاطعها بالتصفيق وعبارات «الآه»، ثم يصفق بانضباط عند انتهاء المقطوعة.
كنت أنوي أن أجري مع حجازي حواراً حول الشعر. ولا أدري ما المناسبة التي جعلتني أسأله عن أمّه. وقد علّمتنا الأفلام المصرية كيف تُنادى الأم بالست الوالدة. وكانت والدته في الثمانين يومذاك. أي أصغر منه الآن. وهو ليس متأكداً إن كان ميلادها سبق الحرب الأولى أو وقع أثناءها. قال إنه يتذكرها دائماً وهي شابة جميلة مهتمة بجمالها وملابسها وبشبابها، بالقياس لزوجها الذي كان يكبرها بعشرين سنة أو خمسة وعشرين. كانت مليئة بالحيوية إلى درجة الاستعداد السريع للانفعال أو الغضب. لا تطيق الكسل والتأخر عن العمل أو أي إشارة ترى فيها خروجاً على قاعدة من القواعد. وفي حين لم يكن الأب مرتاحاً لانصراف ولده إلى المطالعة والكتابة فإن الوالدة تعاطفت مع موهبته، وكانت تشعر بأن هناك ما يقلق أحوال الولد.
يقول إنها كانت تحب الغناء. وهو مدين لبكائياتها بجانب مهم من تجربته. ولعل هاجس الموت في شعره جاء من تأثره بما حفظته الذاكرة منها. فقد كان له سبعة أخوال تساقطوا موتى بين عامي 1940 و1952. أي بين الفترة التي كان فيها في الخامسة من عمره وحتى السابعة عشرة. يأتي النعي إلى أمه فتهرع إلى ملابسها السود ولا تنتعل حذاءها. تعدو حافية في طرقات البلدة من بيت زوجها إلى بيت الميت. وهناك تقضي أيام الحداد وتعود إلى أبنائها لتملأ الحوش بكاء. «كان نحيب أمي جميلاً. وأعتقد أن البكائيات العربية كلها متشابهة وأخاذة. وحاولت وأنا في الأردن والعراق والمغرب أن أنصت إلى تراتيل العزاء وأن أتلمس آثارها في شعري. كان صوت أمي عميقاً خافتاً لكنه يزلزل كياني إلى درجة أنني كنت أبكي وأرجوها أن تكفّ».
هل يأتي جيل عربي يتذكر الأمهات غير نائحات؟