د. يوسف بن طراد السعدون
* عضو مجلس الشورى السعودي
TT

الاستباق... ترياق

يقوم المنهج العلمي للتأمل وبعد النظر الاستراتيجي على بناء سيناريوهات تخيلية، من خلال تحديد مجموعة متغيرات متوقع حدوثها وتقدير افتراضات متعددة، سعيا لاستنباط محاكاة للمستقبل. وتلك السيناريوهات، لا تتنبأ، بل تبلور استكشافات استباقية لاحتمالات أوضاع المستقبل، بهدف المساعدة في تحديد الفرص واتخاذ القرارات المناسبة لتعزيز القدرة والمرونة على مواجهة التحديات الاجتماعية، السياسية، الأمنية، الاقتصادية وغيرها. ولقد بدأ مركز الفكر الأميركي «راند» (RAND «Research And Development») طريقة هذا المنهج عام 1950. حيث تمت بلورة عدة سيناريوهات تختبر استراتيجيات عسكرية مختلفة لمواجهة الاتحاد السوفياتي، إبان الحرب الباردة معها. وأصبح بعد ذلك أسلوبا متبعا في عمليات التخطيط الاستراتيجي، تستخدمه الشركات والمنظمات والدول لبلورة خططها طويلة الأجل المتعلقة بجوانب مثل: استراتيجيات الشركات الإنتاجية والتسويقية، الاستثمارات المالية الاستراتيجية، الخطط العسكرية، والسياسات والبرامج الحكومية.
وتبنت، قبل عقد من الزمان وتحديداً في مايو (أيار) 2010، مؤسسة روكفلر وشبكة الأعمال العالمية (The Rockefeller Foundation)، منهج التأمل الاستراتيجي بدراستهما الصادرة آنذاك: سيناريوهات لمستقبل التقنية والتنمية الدولية (S.F.T.I.D). حيث اختاروا التقنية كهدف أساسي للدراسة، وقاموا بتطوير نموذجاً لاستكشاف دور التقنية بمستقبل العولمة. وأدرجوا في النموذج بعض المؤشرات الشبه مؤكد حدوثها مثل: تعددية الأقطاب للنظام الدولي، النمو السكاني، كثافة الطلب العالمي على الطاقة والغذاء والمياه، واحتمال تفشي جائحة عالمية استنادا لبيانات جائحة أنفلونزا الخنازير التي انتشرت عام 2009 بآسيا انطلاقا من الصين. واستند النموذج على مؤشرين أساسيين كمحاور مؤثرة بمستقبل التقنية والتنمية الدولية، يكتنف التوقعات حولهما عدم التأكد واليقين، وهما: التجاذبات أو التحالفات السياسية والاقتصادية العالمية، ومدى قدرة المجتمعات المختلفة على التكيف مع الأوضاع المتغيرة التي تواجهها. وبافتراض التبعات المحتملة للأبعاد المتضادة لهذين المؤشرين، مع مزجهما بالمتغيرات والدلائل الأخرى الشبه مؤكدة، توصلوا إلى أربع سيناريوهات مختلفة لعالم المستقبل، هي: - الإغلاق: عالم بإدارة حكومية مشددة ومحدودية بالابتكارات، 2- الحكمة الجماعية: عالم يتميز بتعاون دولي لبلورة استراتيجيات مشتركة ناجحة، 3- سيادة الجريمة: عالم يسوده عدم استقرار اقتصادي ووهن بالحكومات وانتشار للجريمة وظهور ابتكارات خطيرة، 4- التعاون الذكي: عالم بأوضاع اقتصادية سيئة تدفع الأفراد والمجتمعات للاعتماد على ذاتهم وتطوير حلولهم الخاصة.
وأثبت السيناريو الأول «الإغلاق»، نجاحه في بلورة توقعات تصف بدقة الأحداث الجارية بالعالم الآن.
حيث توقع انتشار جائحة، عام 2012، تأخذ النظام الدولي على حين غرة تؤدي إلى: مرض ووفاة الملايين، تدهور بالاقتصادات، توقف الحركة الدولية للأفراد والسلع، انهيار لبعض الصناعات كالسياحة، تحطم سلسلة الإمدادات العالمية، وتوجه الدول لفرض تدابير وقيود مشددة في سبيل مواجهة الجائحة. وتضمن أن الحكومات سوف تستأثر بسيطرة أكبر في إدارة الأمور، واندفاع عدد منها خصوصا الدول المتقدمة لفرض قوانين مشددة لتوجيه بعض القطاعات الرئيسية لديها التي تعدها ذات أهمية للمصلحة الوطنية، وسعي قيادات بعض الدول لتعظيم مصالحها الشخصية.
واستنتج هذا السيناريو أن الظروف سوف تكون محفزة لنمو عدد من التقنيات مستقبلا، مثل: الماسحات الضوئية التي سوف يشيع استخدامها بالمطارات والأماكن العامة، صناعة التعبئة والتغليف والتوزيع الصحية الذكية للغذاء والمشروبات، أدوات وإجراءات الفحوص الاستكشافية عن الأوبئة وتطبيقات إجراء الكشوف الصحية، الاتصالات المرئية، محركات البحث على الإنترنت، وبناء شبكات الاتصالات والتقنية الوطنية والإقليمية.
ونجاح استنباطات هذه الدراسة (وغيرها من التقارير والدراسات والأفلام التخيلية) بتقديم وصف مسبق لما يجري في وقتنا الراهن من أحداث، لا يمثل إثبات قاطع لنظرية أن الجائحة مؤامرة عالمية مدبرة من بعض الساسة والدول العميقة بهدف تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية. كما لا ينفي واقع أنها أتاحت الفرص لقوى الخير أو الشر ومكنتها من بلورة مخططات منسقة لخدمة مصالحها الذاتية. ولكن الأهم أن ذلك النجاح يؤكد ضرورة إدراك أن مثل هذه الاستنباطات نبعت من حقيقة أن الإنسان خلق وعلم البيان. وهذا البيان ليس فقط نطقا باللسان، بل يسبقه الإدراك والاستشراف بالفكر والعقل. وإدراك أيضا أن الإنسان رهين بعمله وإرادته، وما يكتسبه في حياته نتاج سعيه واجتهاده. والكاسب دوما هو من يتبني منهج حسن التدبير لشؤونه بإمعان النظر في عواقب الأمور، مستعينا بالله ثم بالعلم والمعرفة والخبرة والتعقل.
وبالتالي فمن المفيد للمؤسسات والهيئات والشركات والمنظمات وخصوصاً الدول، إذا ما رغبت في حماية مصالحها ونفوس سكانها، التعايش مع أحوال الحياة بحكمة ودراية بالتدبر واستباق المتغيرات المختلفة والتخطيط الجيد للمستقبل. والاهتمام بأمور عدة، منها:
1- اتباع منهج التأمل الاستراتيجي العلمي، وتضمينه في المناهج التعليمية الجامعية، وإنشاء مراكز فكر وطنية تعنى به، والمتابعة المستمرة والمراجعة للتقارير والدراسات التي تعدها مراكز الفكر العالمية بهذا الشأن وتقييم تبعات نتائجها على المصالح الخاصة والوطنية.
2- السعي الحثيث للمشاركة في إعداد الدراسات الاستشرافية الرامية لتحديد التوجهات الاستراتيجية للتجارة العالمية بالمستقبل، ومواكبة ذلك في الخطط الاستراتيجية الوطنية الاقتصادية والسياسية والتعليمية والبشرية.
3- تبني استراتيجيات وبرامج استثمارية وتجارية تسعى لاستغلال الفرص المتاحة بالقطاعات والمجالات المتوقع ازدهارها مستقبلا كالاتصالات، الإنترنت والتجارة الإلكترونية، هندسة البرمجيات، الخدمات اللوجيستية والتوزيع، تعزيز سلاسل الإمداد الوطنية ودعمها، الرعاية والمنتوجات الصحية، أنظمة وإنتاج المياه، الخدمات المصرفية الدولية، والصناعات الغذائية، ومجالات الثورة الصناعية الرابعة المتمثلة بالذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والروبوتات وتقنية التشفير، وعلوم الأحياء والفضاء. والابتعاد عن القطاعات والصناعات المتوقع تدهورها واضمحلالها.