زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

المنظمة العجوز والواقع العالمي... ضرورة الإصلاح!

الوضع العالمي الراهن بطبيعة الحال ليس في أفضل حالاته على خلفية ما يجري، بدءاً من الصراع الأميركي - الصيني المتصاعد، وتداعيات فيروس «كورونا» بكوارثها الاقتصادية والاجتماعية والصحية؛ ما يفتح الباب على مصراعيه لإعادة النظر في دور المنظمات الدولية، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة ووضعها تحت مشرط الإصلاح. ترهلت المنظمة العجوز ولم يعد بمقدورها التعاطي مع الأزمات وما هو منوط بها. مصالح ضيقة وتحالفات دولية لبعض دول كبرى أفضت عن قصور في أداء أعمالها، وأصبحت مبادئها إلى مفهوم الشعارات هي أقرب.
باتت المنظمة عاجزة - للأسف - عبارة عن جزر معزولة من دون معايير (الأجهزة التابعة لها) وتدور في حلقة مفرغة بدليل أن من تعاملوا معها أشاروا إلى اهتزاز الثقة بها، والأسباب ليست وليدة اليوم، فما بالك ونحن نتعامل اليوم مع واقع عالمي جديد في طور التشكل بسبب «كورونا». كلما زاد الإخفاق للمؤسسة الأممية لا تلبث أن ترتفع الأصوات، ومع كل محاولة فاشلة في معالجة القضايا في مجلس الأمن تتجدد المناداة بضرورة التغيير، لا سيما ونحن نتحدث عن منظمة تجاوز عمرها سبعة عقود. الظروف والأحداث ودقة المرحلة التي يمر بها العالم أعطت زخماً واهتماماً للدعوات المنادية بإصلاح جذري يمس الجوهر والمضمون.
غياب الحلول والمخارج وتوالي فشل الملفات وقصص التأجيل، أصبحت بمثابة بصمة لدور الأمم المتحدة الهزيل. تنزف الذاكرة بالملفات العالقة والأزمات المتراكمة، ولاحظ على سبيل المثال قضية فلسطين المزمنة، أزمة كوريا الشمالية، برنامج إيران النووي وصواريخها الباليستية وتدخلاتها في شؤون الغير ودعمها الإرهاب، والنزاع الهندي - الباكستاني، وكذلك الصين مع تايوان، مروراً بقضية الصحراء الغربية والسودان وملفاته وأزمات أميركا الجنوبية، ناهيك عن فضائح مهماتها لحفظ السلام خلال التسعينات في الصومال، ورواندا، والبوسنة، وانتهاءً اليوم بملفات سوريا وليبيا. أحداث اليمن مثلاً تعكس بلا مواربة الخلل والتخبط والارتجالية التي تعانيها الأمم المتحدة رغم أن القرارات الدولية ومبادئ القانون الدولي واضحة وصريحة، إلا أن تعاطيها المتلون والمتناقض معها ما زال يمثل علامة استفهام.
سقطات المنظمة المتوالية دفعت الكثيرين إلى المطالبة بأهمية إعادة النظر في هيكلة الأمم المتحدة ودور مجلس الأمن وآلية اتخاذ القرار فيه، والتذمر يتعلق بالتركيبة الإدارية والتنظيمية لأجهزتها، وأبرز مثال على ذلك نظام الفيتو الذي يتعارض مع نص صريح في ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص صراحة على «مبدأ المساواة بين الأعضاء»، فضلاً عن نظام التصويت في صندوق النقد الدولي، ناهيك عن عدم التوفيق في اختيار مبعوثيها لإدارة الأزمات والقضايا العالمية والتي تأثرت بالمحسوبية والولاءات، وأخيراً تعطيل بعض القرارات الصادرة عن مجلس الأمن لتأثره بموازين القوى ومفاعيلها.
الفيلسوف إيمانويل كانط كان أول من اقترح منذ قرنين إنشاء منظومة فيدرالية تضم دول العالم، ترتكز على معاقبة أي دولة تعتدي على دولة أخرى. فكرة نظام الأمن الجماعي تأسست على نقطة محورية تتمثل في عدم السماح بالإخلال بالوضع القائم في النظام الدولي بطريقة غير مشروعة. وفعلاً، فقد تبلورت صورتها من خلال صيغ عدة لتنظيم المجتمع الدولي في أعقاب الحروب الأوروبية بدءاً من معاهدة «وستفاليا» عام 1648، التي وضعت القواعد والأسس لتحقيق الأمن للدول الأعضاء على أساس جماعي، ثم ما لبثت أن نزعت العلاقات الدولية نحو التعاون ومروراً بمعاهدة «أوتراخت» عام 1713، وصولاً إلى معاهدة «فيينا» العام 1815، التي رسخت مفهوم الأمن الجماعي ليصبح عنصراً مفصلياً في منظومة العلاقات الدولية.
ومن 1919 إلى 1945 أنشئت عصبة الأمم، إلا أنها فشلت في مهامها. غير أن قادة دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بقيادة الولايات المتحدة، قاموا بتأسيس منظمة الأمم المتحدة سنة 1945 بحيث تتألف من ستة أجهزة رئيسية، هي الجمعية العمومية – مجلس الأمن - المجلس الاقتصادي الاجتماعي – مجلس الوصاية - محكمة العدل الدولية - والأمانة العامة. معلومات كهذه تجسد لنا أن المنظمة وعبر تاريخها تعرضت إلى صيغ تطويرية وحالة من الإصلاحات الجزئية، فهي لم تستقر على كينونة واحدة؛ وهذا ما يدعم فكرة الإصلاح الحالية. كثيرون يقرون بوجود خلل بنيوي في راهن المنظمة الدولية، وأنها في حاجة إلى عمليات جراحية جذرية وليست مسكنات.
على أي حال منذ توليه المنصب لم يستطع الأمين العام أنطونيو غوتيريش أن يصنع الفارق رغم حماسه وهو لا يحمل عصا سحرية، لكن الأجواء التي يعيشها اليوم قد تحفز غوتيريش أن يوظفها وفق تفاهمات وترتيبات، لا سيما بعد تعدد القطبية بعودة روسيا ومماحكة الصين، لإعادة الهيبة للمنظمة الدولية وإيقاف حالة الوهن في جسدها التي عاثها الخراب والفساد على نحو يتناغم مع معطيات الواقع العالمي الجديد، وعلى قاعدة الحياد والمهنية والمصداقية.
ثمة حاجة إلى صياغة المنظومة الدولية من جديد وتثبيت بوصلة التوازن في فرض السياسات والعلاقات الدولية، فالتحولات المتسارعة التي يعيشها العالم اليوم تعزز الدعوات بإصلاح حقيقي يمس هيكلها لا شكلها.