رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

هل لهذا الخراب نهاية؟

لا أعرف سبب ومعنى القول الذي يردده اللبنانيون: فلان تعذبَ عذاب الحرامية! فاللصوص لا يتعذبون وإنما يتعذب ضحاياهم من المدنيين والأبرياء الذين يُسلبون مالهم أو حياتهم أو وطنهم وعلى أيدي لصوصٍ ومرتزقةٍ ومحترفي حروب وباحثين عن نهب البلدان وتحويلها إلى مناطق للنفوذ وللحروب المتنقلة.
كنت أقول لأحشد الزملاء المتخصصين بالتاريخ: لا أظن أننا نحن العرب شهدنا في تاريخنا القديم أو الوسيط حقبةً من الفوضى والخراب للبلدان والعمران مثل هذه السنوات التي تطاولت حتى انقطع الأمل بانقضائها! فأجابني بعد تأمل: بل حقبة الحروب الصليبية، وحقبة سقوط الأندلسسس، حيث كان صغار الحكام يتشاجرون فيما بينهم، ويستعينون على بعضهم بالصليبيين وبالإسبان. وقلت: وهل استمر ذلك لزمنٍ طويل؟ فقال: نعم، مائة أو مائة وخمسون سنة! وقلت: وماذا كان السكان المدنيون يفعلون؟ فقال بعد تأملٍ أيضاً: سلكوا أحد ثلاثة مسالك لاستعادة الدولة: حاولوا أن يجدوا مؤهلين بالداخل أكثر كفاءةً وعلوّ همة من المتسلطين الزعانف، أو استعانوا بأقوياء من حكام المسلمين من الجوار القريب أو البعيد. وإن تعذر هذا الأمر أو ذاك؛ فإنهم كانوا يستسلمون للمغير والمحتلّ، ويحاولون أن يأخذوا منه ضمانات للمدنيين، ويترجّون سراً أن يظهر بطلٌ غير منتظر. وكما تعلم ففي حالة الشام ومصر لاح القائد المحرر في الأفق مراراً فاستُعيدت الحرية والدولة، أما في حالة الأندلس؛ فإنّ المغاربة استنقذوها مرتين، ثم «استعادها» الإسبان بعد ثمانمائة عام، فقتلوا مليوناً وتنصر مليون، وهرب إلى المغارب والمشارق مليون!
كل هذه الكوابيس السوداء نزلت بي ونزلت لا شك بآلاف العرب خلال ليالي ونهارات الوباء والانعزال والصوم في رمضان. وذلك لاستمرار أحداث الخراب والقتل في ليبيا واليمن وسوريا ولسنواتٍ متطاولة. الزميل الذي كنتُ أذكر تأملاته الألفية يكره تدخلات العسكر وانقلاباتهم، لكنه يكره أكثر عيث ومصائب ونهب الميليشيات. فإذا اجتمع على بلدٍ الأمران فإنه يصرخ ولطالما صرخ خلال السنوات الماضية: لا مخرج إلا بحلّ الحسن البصري! وما هو حلُّ الحسن البصري؟ الاستبدال! الوارد في الآية القرآنية: «وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» والاستبدال، أي تبديل الدول وربما الأُمم، هو الذي كان الحسن البصري يهدد به الأُمويين لسخطه عليهم، ومات الحسن قبل سقوطهم، لكنّ تلميذه أبا بكر بن عياش الذي عاش طويلاً أيام بني العباس قال: البلاء مع بني العباس أشدّ منه مع بني أمية. أهل الدولتين قليلو الدين، لكنّ الأمويين كانت عندهم أخلاقٌ ومروءة لا يعرفها بنو العباس!
لقد روعتني أخبار البلدان العربية الثلاثة خلال الأسابيع الماضية. ما انتظرتُ ولا انتظر عارفون عقلاء أن يكون المشير خليفة حفتر هو الحلّ، لكننا كنا نعرف جميعاً أن ميليشيات طرابلس خرابٌ أبدي، رغم عنوان الوفاق والاتفاق والحلّ الدولي. ولذلك ظننا أن مبادرة حفتر ستدفع باتجاه خيارٍ ثالث، ربما كان خيار السنتين الأُوليين بعد العام 2011 إنما الذي حصل هو ظهور الأتراك كما ظهر الإيرانيون والروس في سوريا. و«التقدم» الذي تحقق للسراج سيزيد من الخراب، لأنهم سيطمعون بالإغارة والاستيلاء على الهلال النفطي، وربما من بعدها على الجنوب والشرق، وسيعني ذلك تخليد النزاع بين الشرق والغرب وصيرورة ليبيا مثل الصومال أو أسوأ. وبالمناسبة فإنّ إردوغان موجودٌ بالصومال أيضاً في انفصالٍ عن قوة الاتحاد الأفريقي التي تضعف وتنسحب، فلا يبقى في الميدان غير حديدان، أي الحرب الدائمة!
وما يحدث في اليمن لا يقلُّ هولاً وفظاعة. منذ سنتين تقريباً ثبتت الجبهات، وما عاد هناك تقدم لأحد الطرفين: استمتع الحوثيون بصنعاء والحديدة، واستمتع الشرعيون بمأرب. وقد تعذرت كل الحلول، وانقطع الأمل حتى بعد اتفاق استوكهولم، إلى أن بدأ الحوثيون هجومات بالجوف وبمأرب وبالبيضاء وبتعز وبالحديدة. فتحرك الدوليون لإنفاذ اتفاق استوكهولم، وبدأوا يتحدثون عن إيجابيات في السياسة السعودية تجاه الحلّ بأي شكل. لكنْ كما قال شكسبير فإنّ المصائب لا تأتي فُرادى، ظهر المجلس الانتقالي بعدن والذي يريد الانفصال اليوم قبل الغد. وهذه هي مشكلة الميليشيا التي لا حلَّ لها. فهؤلاء نهضوا لمقاومة الحوثيين عندما كان الجيش اليمني قادراً وحده. وعندما صار الجيش قوياً نسبياً، وصار هناك أمل بدعم التحالف إرغام الحوثيين على التفاوض، أحسّ شباب «الانتقالي» وكهولهم أن الفرصة توشك أن تفوتهم، وأنّ الإصلاحيين و«الإخوان» مسيطرون على الحكومة فيما زعموا فاستولوا على عدن وأطراف محافظات أُخرى ليزيدوها خراباً على الخراب الذي أحدثته السيول وتُحدثه «كورونا» الآن. الحكومة الشرعية ليست مثالية مثل حكومات الحروب، لكنّ الانفصاليين يجرئون الحوثيين، ويضطرون السعوديين الذين «رعوا خاطرهم إلى النهاية» في اتفاق الرياض، على اتخاذ موقف. وفي الحقيقة لستُ مهتماً لا بـ«الانتقالي» ولا بـ«الإخوان»، بل بإنهاء معاناة أهل تعز وأهل الحديدة وبلداتها، وهل يبقى اليمن واحداً ولو فيدرالياً أو كونفيدرالياً؟ وقبل هذا وذاك هل هناك أمل أن يتخلّص اليمن من آل حوث كما نأمل نحن في التخلص من «حزب الله» في لبنان؟
وقصة العسكر والميليشيات والتدخل الخارجي في سوريا لا تكاد تُصدَّق. لقد أراد الشعب السوري التغيير، فاجتمعت عليه جيوش وقوى وميليشيات ومرتزقة من أصقاع العالم. وعندما تدخل الروس تدخل الأميركان. ونالت الغيرة والخوف من إردوغان، فتدخل وقاتل أيضاً، وصارت عنده ميليشيات ضد الأكراد، وأخريات يؤجرها لحكومة السراج، وهكذا صار مثل الإيرانيين يقاتل على عدة جبهات. وهو يعزي نفسه مثل الإيرانيين أن «أركان الحرب» فقط من الأتراك، أما المقاتلون والمقتولون فهم من بلدان استعماره في سوريا والصومال والعراق. ويدفع لهؤلاء أنصاره في ليبيا وغيرها. كما يفعل الإيرانيون مع «حزب الله» والفاطميين والزينبيين والعراقيين. إنما لماذا هذا الاستضعاف لنا نحن العرب سواء من الإيرانيين أو الأتراك أو الروس أو الأكراد أو الأميركان أو الفرنسيين... الخ.
قبل أيام عندما طُلب مني التعليق على ذكر خامنئي لصلح الحسن بن علي مع معاوية وثنائه عليه، استجبت. وناقشتُ الاعتبارات الدينية والفقهية والأخلاقية في إمكان مهادنة إيران للولايات المتحدة، لأنّ في ذلك مصلحةً كبرى لإيران وشعبها. وبعد أن أرسلتُ المقال ذكرتُ مقولة أبي بكر بن عياش في بني العباس: لا دين ولا أخلاق! يا رب، أما لهذا الليل من آخِر؟!