كان الضابط الطيار كاظم عبادي - رحمه الله - من ضباط القوة الجوية العراقية الذين حظوا بشهرة وشعبية كبيرة عند الشعب العراقي. ارتبط اسمه ببعض الانتصارات الأسطورية والوهمية ضد الإنجليز في حرب مايو (أيار) 1941. وكان منها القفز من طائرته إلى طيارة إنجليزية وأسرها!! بالنسبة لي، نال حبي وإعجابي بدوره في لعب كرة القدم كلاعب ماهر ورقيق.
ويظهر أن شعبيته ودماثة خلقه لفتت نظر أرشد العمري، رئيس الوزراء في ذلك العهد. فانتدبه كمرافق طيار له. قدر له بالطبع وبصفته هذه أن يصاحب الوزراء ورئيس الوزراء وكبار الشخصيات في كثير من أسفارهم وتحركاتهم داخل العراق.
كانت الحكومة العراقية قد انشغلت ببناء قصر ملكي في سرسنك، في كردستان العراق، كمصيف للأسرة المالكة. وشاء أرشد العمري أن يسافر إلى هناك ليشرف على سير العمل. اتصل بالطيار كاظم عبادي أن يستعد لمصاحبته ونقله إلى الموصل، قريباً من سرسنك. جرى ذلك وانطلقت بهما الطائرة مع رهط من العساكر والمرافقين المسؤولين.
أخذ كل منهم مكانه في الطائرة العسكرية، وجلس المقدم كاظم عبادي في مقعد القيادة. كان الوقت صيفاً، والوقت حاراً، فاضطر المقدم كاظم إلى خلع سترته. بالطبع لم تكن في المكان شماعة لتعليق الملابس، فاضطر إلى وضع سترته وراءه.
كانت نهاية الشهر قد حلت، وبحلولها حل موعد قبض الرواتب. دسّ العقيد كاظم مظروف الراتب في جيب سترته. ولكن هذا الوضع المرتجل جعل المظروف «ينط» برأسه من الجيب. لفت ذلك نظر رئيس الوزراء. فخطر له أن يعمل مقلباً على مرافقه الطيار من باب المزاح والمداعبة. كان يعرف ما في المظروف. فمد يده، واستل منه الراتب. وأشار على بقية الضباط أن يلتزموا الصمت.
وبعد الوصول إلى الموصل والنزول من الطائرة والانتقال إلى غرفة الاستراحة، خطر للعقيد كاظم أن يتأكد من وجود راتبه. سحب المظروف ونظر فيه، فلم يجد دنانير الراتب في المظروف. راح يفتش جيوبه وكل شيء ولم يجد للراتب أثراً... «يا جماعة، أحد منكم شاف راتبي؟».
صمت تام، ووجوه عابسة. «يعني طار بقدرة الله؟» أخيراً، لم يستطع ضبط أعصابه، فانفجر بالكفر والشتائم: «بلد كلهم حرامية. صغارهم وكبارهم! حرامية ولصوص. بس تغمض عينك لحظة يسرقوك. هو هذا بلد؟! هو هذا وطن؟! الله لا يسامح اليد اللي مدت أصابعها في المظروف، وسلحت الدنانير من المظروف!».
وبعد أن نفض ما في قلبه من أسى، فتح الباب، ودخل رئيس الوزراء: «خير إن شاء الله؟ كلكم دايخين؟؟».
تطوع الملازم سعد، وفتح فمه: «سيدي، المقدم كاظم سارقين فلوسه وصاير عصبي!».
وهنا مدّ أرشد العمري يده في جيبه، وأخرج الراتب وقدمه للمرافق الأقدم الذي أسقط في يديه، ولم يعد يعرف كيف يعتذر عن كل ذلك السبّ. ولكنه قوّس ظهره وانحنى وانهال بتقبيل يدي رئيس الوزراء ووجنتيه. وكانت كلها أياماً حلوة وراحت.
TT
أرشد العمري يمازح مرافقه
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة