جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

النزال بين الفيروسات والبشر

تفشي الوباء، واستفحال أمره، وارتفاع ضحاياه، واستحواذ تحركاته على أكبر نسبة من المساحات الإخبارية في جميع الوسائل الإعلامية عالمياً، جعلنا نحسُّ وكأننا ندور في مدار حَبَّة كُسبَرة، بحثاً عن مخرج، ولا مخرج!
فالمرء منّا، هذه الأيام، أينما كان وحلّ، منذ أن يستيقظ صباحاً، ويفتح عينيه على صحو النهار، إلى أن يمضغه التعب في آخر الليل، ويتوسد مخاوفه وينام، يشعر بأن الأيام من شدة تشابهها تتمدد بلا تفاصيل أو فواصل، بل تحوّلت إلى ما يشبه حبال غسيل، معلقة على سطوح، في بيوت هُجّرَ أهلها عنوة، أو هَجَروها هرباً من خطر، وعلى عجل.
النازحون والمهاجرون والمهجّرون والمنفيون يستحيل أن ينسوا بيوتهم التي تركوها، لأنها خِزَانات أودعوها محتويات وتفاصيل أيام وسنوات أعمارهم، وما جرى خلالها من أحداث، سواء أكانت مبهجة أم العكس، في فترات عمرية متعددة. وبالتالي، فإن نسيانها موضوع لا مقام له على رفوف أذهانهم. وحدوثه، تحت أي ظروف طارئة، يكون بمثابة انتزاع صفحات كثيرة من وقائع سجلات تواريخهم الشخصية. لكنّهم على اختلافهم وتنوعهم، وتمايز ظروفهم، لا أحد منهم يحرص على تذكر حبال غسيل تُركت معلقة على سطوح بيوت عاشوا فيها لسنوات، أو يفتقدها، حتى إن كانت مغزولة من خيوط حرير، أو فضة، إلا إذا كان شاعراً استثنائياً كالراحل محمود درويش، الذي من شدة حنينه لأمه، اشتهى في إحدى قصائده أن يكون حبل غسيل على سطح دارها.
بعض منّا، حين يتمكن العالم، قريباً، من الخروج منتصراً في جولته الحالية ضد الوباء، ويستعيد تدريجياً إيقاعه المفقود والمنشود، ربما سيتذكرون كل تفصيلة صغيرة حدثت في حيواتهم خلال فترة العزل الصحي، حتى إن كانت تلك الأيام متشابهة ولا تتميز فيما بينها بأي تفاصيل. في حين أن البعض الآخر سيحاولون محوها من ذاكرتهم، ويعدّونها مثل حبال غسيل معلقة على سطوح في بيوت مهجورة. هذا من جهة.
من جهة أخرى، ربما نستغرب كثيراً حين يبدأ المؤرخون مستقبلاً، في محاولة فهم وتفسير ما يحدث الآن، من خلال سرد قراءاتهم المتنوعة لمختلف الأحداث خلال فترة الوباء. وربما يتحوّل استغرابنا إلى دهشة حين نكتشف فجأة أن ما كنّا نظنّه متشابهاً ومضجراً لخلوه من تمايز التفاصيل، لم يكن في حقيقته كذلك. لأن عيون المؤرخين المدرّبة والمؤهلة قادرة على رؤية ما يحدث خارج محدودية جدران الحجر، وتعلمت من خلال خبرتها وتجاربها السابقة، على رصد أصغر الأشياء وأدقها، والتي عادة لا تثير انتباهنا، وهي كثيرة، ومهمة، وذات علاقة مباشرة بحياتنا. لكن أهميتها لا تتبدى إلا عقب مبادرة المؤرخين بتجميعها وتصنيفها وتوثيقها وإخضاعها للمقارنة، وللمساءلة العقلية، والتحليل الموضوعي، وأخيراً عرضها في خلاصات واستنتاجات. وتنبع أهميتها من حقيقة أن الإنسان ليس فقط حيواناً ناطقاً، واجتماعياً وسياسياً، بل هو حيوان تاريخي. وحضارته وتطوره تاريخيان. وما اعترى مسيرته الطويلة على سطح اليابسة، منذ البداية حتى يومنا هذا، من تغيرات وتحوّلات، يدخل ضمن سياق مسارات صراعه ضد الطبيعة، وسعيه لإخضاعها، والسيطرة عليها.
الصراع ضد الطبيعة يشمل حروب الإنسان ضد الأوبئة. والحرب الدائرة ضد فيروس كورونا حالياً تمثل جولة، أو حلقة أخرى متقدمة منه.
ما يحدث الآن من معارك ضد الوباء، يعني أن التحدي الوبائي الذي تواجهه الحضارة الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، آخذين في الاعتبار الفروقات، ليس من دون سوابق تاريخية. ما يميز هذه المحنة، مقارنة بما سبقها من كوارث وبائية، هو أن الإنسانية قد بلغت مرحلة متقدمة من تطورها العلمي والطبي، تضعها في موضع أكثر تأهلاً، على الأصعدة كافة، لخوض غمار الحرب ضد الوباء الفيروسي وهزيمته.
فنحن لولا ما تركه لنا المؤرخون القدماء من وثائق، لما كنّا عرفنا ما أحدثه الوباء، على سبيل المثال لا الحصر، في مدينة أثينا في العام 430 قبل الميلاد، في حقبة حاكمها بيركليس، وهي في ذروة مجدها الحضاري والعسكري والعمراني. الوباء الذي اجتاح المدينة، ذاك العام، جاءها محمولاً على متن سفنها المحملة بمختلف البضائع، وأودى بحياة أكثر من ثلث السكان، ومن ضمنهم بيركليس. واستناداً إلى الكاتب البريطاني توم هولند، هناك تلازم تاريخي، قديماً وحديثاً، بين انتقال السلع والبضائع وانتقال الجراثيم والأوبئة. فأينما تحركت الأولى تتحرك الثانية. أثينا كانت، في ذاك العام الغابر، ولسوء حظها، مشغولة بحروبها مع مدينة أسبرطة. وكانت بطبعها مدينة مفتوحة الأبواب على العالم، مستنيرة بالعلم والفلسفة والفنون، وتجوب سفنها مرافئ عواصم العالم القديم محملة بمختلف البضائع، وكأنها بذلك كانت تضع أول أساسات عولمة سوف تجتاح العالم بعد قرون. وكانت غريمتها أسبرطة، على نقيضها، مدينة منغلقة على نفسها كصدفة، توصد أبوابها في وجه الغرباء، وتدير ظهرها للعالم. لذلك نجت أسبرطة من فتك الوباء، ودفعت أثينا ثمناً مكلفاً لانفتاحها، عَرّضها لاختلال الأمن والنظام، ووضع ضغوطاً على ديمقراطيتها نتيجة انفلات الفوضى. لكن رغم ذلك، تلاشى الوباء، وقضى الانغلاق على أسبرطة، وعاشت مدينة أثينا رمز الانفتاح والديمقراطية والفن.