علي عيد
صحافي سوري مقيم في باريس
TT

رابطة الصحافيين السوريين... التكوّن بالديمقراطية والصراع

كتب الزميل الصحافي فايز سارة في صحيفتكم الغرّاء مقاله المعنون «نحو مسار جديد لرابطة الصحافيين السوريين»، والمنشور يوم الأربعاء - 6 شهر رمضان 1441 هـ - 29 أبريل (نيسان) 2020 م، رقم العدد [15128].
وبالإشارة إلى أهمية هذا المقال وما احتواه من معلومات مفيدة حول مشكلات جذرية في تركيبة عمل المنظمات السورية، سواء النقابية أو منظمات المجتمع المدني، أجدني مدفوعاً بالحرص على توضيح بعض النقاط ومسارات تطور عمل «رابطة الصحافيين السوريين» بصفة خاصة باعتباري رئيساً لها لدورتين انتخابيتين متتاليتين منذ 2016 وحتى لحظة كتابة هذا المقال.
بالعودة إلى إنشاء الرابطة وبيانها التأسيسي الذي وقع عليه نحو 100 صحافي بتاريخ 20 فبراير (شباط) 2012، يمكن استخلاص عدد من النقاط حول طبيعة التأسيس ومن ثم تأثيرات لغة هذا البيان في مسار الرابطة من جهة، وكذلك ما حصل من تطورات جذرية في فكرتها وطريقة عملها.
جاء التأسيس استناداً إلى حاجة ملحة لوجود جسم يضم الصحافيين الذين رفضوا سياسات النظام سواء منذ اندلاع الثورة في فبراير 2011 وقبلها، وهي بالضرورة سياسات تخضع العمل الإعلامي إلى اعتبارات أمنية وحزبية تمنع ممارسة الصحافي لمهمته وأداء رسالته بشكل سليم، واستخدم الموقعون لغة مزجت بين ما هو سياسي وما هو مهني، ليكون البيان التأسيسي بمثابة إطار عام لفكر هذه المجموعة وتوجهاتها في تلك اللحظة، وكان أول أسس تلك المبادرة أن الرابطة هي «بمثابة تجمع ديمقراطي مستقل، ملتزم بمضامين ثورة السوريين من أجل الحرية والكرامة»، فيما تتحدث بقية الأسس عن قضايا نقابية ومهنية، ومسؤولية العمل على «تنمية البيئة الإعلامية» من تأهيل وتدريب، مع الإشارة إلى مقدمة البيان التي تحدثت عن واقع الإعلام بلغة سياسية أكثر منها مهنية، وهي حالة طبيعية بالنظر إلى أولويات المرحلة التي ترافق معها الإعلان عن هذا الوليد.
خلال الفترة بين 2012 و2016 تمكنت الرابطة من الانتقال من مرحلة الفكرة الفضفاضة إلى مرحلة الجسم الذي اجتذب عشرات الصحافيين ليبلغ عددهم نحو 260 صحافياً، إلا أن الملامح العامة للرابطة لم تكن قد تكونت بعد على اعتبار أن السوريين انشغلوا بالحدث الميداني والسياسي أكثر من انشغالهم ببناء منظمات نقابية ومدنية ذات طبيعة ديمقراطية صرفة، وكانت الرابطة تجربة فريدة في أنها من الأجسام القليلة التي استطاعت الصمود.
لم تكن الرابطة كما أشار الزميل فايز سارة جسماً هدفه «تغطية الأخبار والتطورات الميدانية، وأحوال المناطق الثائرة وسكانها، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية»، وإنما كانت جهداً مركزاً لتأطير الصحافيين بحيث يظهر صوتهم مؤثراً كممثل لقطاع الإعلام، وبالتالي فإن مهمة التغطيات الصحافية والخطاب الإعلامي لم تكن جزءاً من النظام الأساسي بالمطلق، ولو حصل ذلك لكان هذا عيباً واختلاطاً في نظامها الأساسي، فليس من مهمة الصحافي فرض اللغة أو التأثير في الرأي العام حسب وجهة نظره، وإنما نقل الحقيقة خالصة من دون تدخّل، وهنا خاصة كان الاختلاط بين مضمون البيان الأساسي والنظام الداخلي (الأساسي) الذي تم بموجبه الترخيص للرابطة حسب القانون 1901 الخاص بالجمعيات في فرنسا كحلّ مؤقت ريثما تسمح الظروف بالانتقال إلى سوريا.
بين عامي 2016 و2020 وهي المرحلة التي عملت فيها رئيساً للرابطة، جاءت لحظة الحقيقة، إذ لا بدّ من الذهاب إلى المهمة الأساسية المهنية، وبناء شراكات مع منظمات دولية وازنة، وجاءت مشكلة البيان التأسيسي كعائق أمام انتساب الرابطة إلى الاتحاد الدولي للصحافيين IFJ، وكان لا بدّ من فكّ الالتباس بعد مفاوضات ماراثونية امتدت لأشهر، إذ لا تقبل المنظمات الدولية انتساب منظمات تحمل أنظمتها الأساسية عبارات سياسية تشير إلى طبيعة غير مهنية بل توجهات سياسية وآيديولوجية، وجرى فكّ الالتباس بتأكيد أن البيان التأسيسي هو وثيقة تاريخية من حق الرابطة الاحتفاظ بها، أما فيما يخص الممارسات المهنية فيظهر النظام الأساسي التزاماً بالمعايير المطلوبة باستثناء بند يتعلق بطبيعة الانتساب، وفتحه أمام جميع الصحافيين السوريين ومن في حكمهم، إذ جرت معالجة هذه النقطة بالرجوع إلى الجمعية العامة ووضع مقترح التعديل وأسبابه الموجبة من دون التأثير في رأيهم، وجرى التغيير بالفعل، وهنا ظهرت المشكلة بمحاولة بعض الأصوات التي خرجت من الرابطة تصوير هذا التعديل على أنه تخلّ عن مبدأ إسقاط النظام في خلط غير مفهوم، أسفر عن خروج عدد من الأعضاء، لكن الرابطة تمكنت من الدخول إلى الفيدرالية الدولية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017؛ إذ استطاعت تشكيل لوبي ضاغط بالتعاون مع اتحادات منضوية في الفيدرالية الدولية ولها ثقلها في مواجهة المجموعة التي حاربت انتساب الرابطة ممثلة باتحادات عربية قريبة من النظام وعلى رأسها الاتحاد العراقي مع اتحاد روسيا العضو في الفيدرالية الدولية.
لقد أظهر الخلاف، على اعتبار النظام الأساسي وثيقة تاريخية وليس جزءاً من النظام الأساسي المهني، تحديات كبيرة تتطلب العمل على تمرين الصحافيين الأعضاء في جوانب عمل المنظمات النقابية والمدنية، حيث ظهرت مشكلة ضعف الخبرة، فمعظم المنتسبين ليست لديهم تجربة نقابية سابقة، ولا حتى سياسية ليتمكنوا من الفصل بين الجانبين.
ولم يكن ممكناً التركيز على إجراء تدريبات في مجال بناء القدرات المعرفية في قطاع العمل النقابي لجميع الأعضاء بشكل فيزيائي نظراً لتوزعهم في عدد كبير من الدول، لكن الرابطة بدأت تتخطى هذه المشكلة عبر نقاشات مفتوحة وجريئة حول هذه القضية، وجميع النقاشات المتعلقة والاختلاف في الرأي هو في صلب العملية الديمقراطية لا خارجها، وهو جزء من التمرين والتكوّن بالتجربة، فممارسة الديمقراطية تحتمل وجود احتكاكات تنتج عنها توجهات ورؤى لمجموعات قد تؤمن بأولوية العمل السياسي على البناء المهني للمنظمة، وهو أمر طبيعي تم استيعابه، وأكسب الرابطة قدرة على فهم طبيعة الاختلافات الحاصلة وأسبابها، في بيئة صعبة، وأمام فشل عشرات الأجسام السياسية والمهنية وعدم تمكنها من الوصول إلى موقع يؤهلها لتمثيل قطاعات بعينها.
تبنت الرابطة استراتيجية عمل تقوم على جانبين؛ الأول خدمة القطاع في المجال المهني من التدريب إلى الدعم وكذلك الحماية وتوثيق الانتهاكات ضد الصحافيين معتمدة على مركز الحريات الذي يعمل بمهنية عالية، والثاني الدفاع عن صحافة حرة مستقلة، وكذلك عن حرية الرأي والتعبير على المستوى العام واعتبارها قضية أساسية في مستقبل البلاد، وعلى هذا الأساس تم الوصول إلى منصات الأمم المتحدة ومكتب المبعوث الدولي والاتحاد الأوروبي وغيرها من الجهات عبر المشاركة في اجتماعات غرفة المجتمع المدني الموازية لمفاوضات السلام التي يقودها مكتب المبعوث الدولي في جنيف، وعبر اتصالات ثنائية مع منظمات دولية لكسب صوتها في إطار عملية المناصرة والتحشيد.
إن الحديث عن «صراعات ومناكفات واتهامات بعضها خطير» كما يشير الكاتب الزميل سارة في مقاله لا يعبر حقيقة عن واقع عمل الرابطة وتكوينها، وهو أمر طبيعي لا يهدد وجودها، إذ لا يمكن التأسيس لعمل نقابي حرّ مستقل من دون معارك داخلية، يرافقها الصخب وعدم الثقة أحياناً لأسباب ثقافية تتعلق بضعف التجربة لدى كثيرين داخل الرابطة، ويمكن الإشارة إلى أن تجربة بناء هذا الجسم لن تكتسب مناعتها إلا بوجود نوع من السجال اليومي، وإن خرج أحياناً عن قواعد اللباقة، وهذا يحصل في منظمات عريقة، وأذكر أنني حضرت بصفة مراقب اجتماعات الجمعية العمومية للاتحاد الأوروبي للصحافيين في لشبونة في يونيو (حزيران) 2018، وتفاجأت بوجود تكتلات وصراعات ونقاشات حادة وركل للأبواب بالأرجل، لكن ما حصل لم يكن مدعاة للخوف من انهيار ذلك الاتحاد، بل كان باباً لفتح نقاشات بناءة على ضرورة تلافي بعض الأخطاء في خطط العمل المستقبلية.
مع ما سبق لا يمكن اعتبار وجود خلافات داخلية وشكاوى لأعضاء ضد آخرين سبباً يهدد وجود أي جسم، فالتكوّن بالصراع هو واحد من طرق البناء واكتساب المهارة، وهذا لا ينفي أن الرابطة تعاني مشكلة الجغرافيا التي أشار لها الكاتب سارة في المقال، إذ تضم الرابطة اليوم نحو 500 صحافي لكل منه تجربته ورؤيته، وهناك حالة تنافس تحصل في كل جسم يشابهه، وإلا لما وجدت محاكم داخلية ونصوص تقضي بحق الجمعيات العامة بالمساءلة وحجب الثقة والمطالبة بالتغيير.
إلى أن يتغير الوضع في سوريا ستكون تجربة الرابطة مثالاً استثنائياً لمنظمة سورية استطاعت الحصول على تمثيل قانوني دولي، واستطاعت تدريب عشرات الصحافيين، وإقامة منتديات شارك فيها مئات الصحافيين والخبراء من مختلف أنحاء العالم، كما أسهمت في وضع نقاط مهمة ضمن إحاطات المبعوث الدولي الخاص بسوريا أمام مجلس الأمن الدولي.
ربما لا يصدق كثيرون أن انتخابات الرابطة لمكتبها التنفيذي الجديد ورئاستها الحالية احتوت على مناظرات مباشرة أمام الجمعية العامة بين المرشحين لعرض برامجهم الانتخابية لمحاسبتهم عليها لاحقاً، وهذا ما لم تشهده منظمة سورية منذ عام 1970 على الأقلّ، وهو نموذج قد يجري الاستفادة من تجربته وتعميمها على أجسام أخرى خلال الفترة القادمة، إذ تتحضر سوريا لمرحلة مفصلية بعد صراع دامٍ، السمة الغالبة فيه أنه لا أحد يسمع الآخر بسبب علوّ صوت الرصاص، وكذلك نتيجة حكم الحزب الواحد وسياسات التجهيل ومنع ممارسة الديمقراطية لخمسة عقود.