بعض القراء اطلع بالتأكيد على كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي المحسن بن علي التنوخي الأنطاكي (939 - 994م). الذي أراد تعزيز الأمل والتفاؤل، من خلال تهوين مصائب الدنيا، وبيان ما يحصل من يسر وسعة بعد الشدائد. وللكتاب شعبية واسعة بين الخطباء والمتحدثين، لكثرة ما فيه من قصص طريفة. وقد أصاب التنوخي ما قصده، فتاريخ البشرية يشهد أن كل شدة لا بدَّ أن تفضي إلى فرج.
بعد هذا التمهيد أقول: إن حديث اليوم لا يجاوز هذا الإطار. لكني لا أقصد تهوين الأمور وإن بدت في السياق على هذا النحو. وموضوعنا كما هو واضح، عن حال العالم بعد انقشاع جائحة «كورونا».
من ضروب المبالغة الادعاء بأن أحداً يعرف تماماً كيف سيكون العالم بعد سنة أو أقل أو أكثر. بديهي أن الخبراء في كل مجال، سيواصلون التأمل في البيانات المتوفرة، وسوف يضعون توقعات لما قد يحدث. لكن أحداً منهم لن يغامر بالقول إن تلك التوقعات علمٌ قطعيٌّ.
لعل قارئاً يسأل مستنكراً: ما دام الأمر لا يتعدى توقعات غير حاسمة، وقد لا يعتمد عليها في اتخاذ قرارات أو تحريك موارد، فما الداعي للاحتفاء بها؟ ولماذا نصرف الجهود والأموال على التحليل ووضع الاحتمالات؟
في الجواب عن هذا التساؤل، يكمن سر المعرفة والتقدم. فلو راجعت أبرز التحولات التي مرَّ بها العالم على صعيد الاقتصاد والصحة والعلوم، لوجدت أن معظمها جاء بعد كوارث مخيفة. كمثال على هذا، فإن النصف الأول من القرن العشرين، شهد ظهور النماذج الأولية والمعادلات الأساسية، لمعظم الأجهزة التي نستعملها اليوم، وكذلك الأدوية التي نتعالج بها، والقواعد العلمية التي نعتمدها في شتى أبعاد حياتنا. في العموم فإن ما أنجزه العالم في هذه الحقبة، تجاوزت ما حققه خلال القرون الأربعة السابقة جميعاً.
لكنا نعلم أيضاً أن هذه الحقبة نفسها، أي النصف الأول من القرن العشرين، هي الفترة التي شهدت أضخم الكوارث، التي سجلها تاريخ البشرية في القرون الخمسة الأخيرة. ومن بينها مثلاً الأوبئة التي ذهب ضحيتها ما يزيد على 150 مليوناً، والحروب الكونية التي قتل فيها نحو 60 مليوناً، إضافة إلى موجات الكساد التي ضربت اقتصادات العالم شرقاً وغرباً، لا سيما كساد العشرينات الذي أدَّى إلى هجرات واسعة، وموت عشرات الآلاف جوعاً.
ثمة محركات عديدة تقف وراء البحث العلمي والاختراع. لعل أقواها شعور الإنسان بحاجته الماسة للسيطرة على أقداره، أي التحرر من أسر الطبيعة وتجاوز قيودها، وإدارة حياته وفق ما يريد، لا وفق ما هو مضطر إليه بسبب قلة حيلته أو قصور إمكاناته.
ما تحدثه الأوبئة من فتك بالبشر، وما تؤدي إليه من فوضى واضطراب في نظام العالم، يولدان شعوراً قوياً بالحاجة إلى التغيير والتطوير، أي ابتكار بدائل عن نظم سائدة، كشف الوباء ضعف استجابتها لحاجات البشر، أو صنع تجهيزات ظهرت حاجتنا إليها، أو طرق عمل ومناهج كانت مستبعدة في الماضي وظهر أنها ممكنة، بل ربما ظهر أنها أكثر فائدة مما ظنناه.
هذي ببساطة هي الحلقة التي تربط بين الشدة التي يعبر عنها الوباء، والفرج الذي يلوح وراء جدران الزمن والغيب، ويدعو الإنسان للبحث والمحاولة كي يشق حجابه ويقبض عليه. دعنا نؤمل خيراً، فوراء العسر يسر وفرج، وربما عوض عن كل ما فات.
8:2 دقيقه
TT
الفرج بعد الشدة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة