هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

هل سباق التسلح المكثف في صالح الولايات المتحدة؟

أبلغ وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، نظيره الروسي سيرغي لافروف، أن أي اتفاق مستقبلي بشأن الحد من الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا يجب أن يشمل الصين. ويعد التحول إلى المفاوضات الثلاثية جزءاً من جهود إدارة ترمب لإعادة صياغة سياسة الحد من التسلح بين الدول العظمى في عصر جديد.
المقاربة معقولة وتثبت بدقة أن الصيغة الثنائية القديمة باتت منفصلة عن الواقع، إذ إن قدرة الولايات المتحدة على إيجاد الزخم اللازم لإنجاح هذا النهج الجديد وحدها -لا سيما في مواجهة الصين- أمر غير مؤكد.
إن إدارة ترمب باتباعها لهذه الاستراتيجية تعلن القطيعة مع نموذجين سابقين للحد من السلاح: فقد ركز نموذج الحرب الباردة على استقرار المنافسة بين موسكو وواشنطن من خلال تحديد حجم ترساناتهما النووية والحد من سعيهما للحصول على أكثر الأنظمة زعزعة للاستقرار. وقد ركز نهج ما بعد الحرب الباردة على التخلص من البقايا الاستراتيجية لصراع القوى العظمى وذلك بالحد من الترسانات الأميركية والروسية.
كان أحدث اتفاق من هذا القبيل هو «معاهدة ستارت» الجديدة الموقّعة عام 2010، وقد قلّص هذا الاتفاق عدد الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية المنتشرة إلى ما يقرب من 1550 رأساً نووياً في كل جانب من الجانبين، وحدد الاتفاق 700 صاروخ باليستي عابر للقارات وصواريخ باليستية تُطلق من الغواصات، وقاذفات ثقيلة ذات قدرة نووية لكل من الدولتين على حد سواء.
لكن بمرور الوقت، أدى تطوران مهمان إلى تدهور القيمة الاستراتيجية للنموذج الثاني:
أولاً، تراجع الروس عن الالتزام بالاتفاقيات الرئيسية، وواصلوا تنفيذ برنامج تطوير نووي كبير. ففي عام 2018، أفادت وزارة الدفاع الأميركية بأن موسكو تنتهك عدة اتفاقيات للحد من الأسلحة النووية والتقليدية.
الأهم من ذلك كان معاهدة القوى النووية متوسطة المدى الموقّعة عام 1988 التي خرقتها روسيا من خلال تطوير ونشر صواريخ تطلَق من الأرض من مدى محظور. وقد جعل ذلك الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في العالم المقيّدة بشكل فعال بشأن بناء الصواريخ التي تطلَق من الأرض -التقليدية أو النووية- مع مدى يتراوح بين 500 و5500 كيلومتر. وبعد أن أمضت إدارة أوباما عدة سنوات في محاولة إعادة موسكو للامتثال، انسحبت إدارة ترمب من المعاهدة العام الماضي.
ثانياً، تجاهل النهج القديم صعود الصين. فنظراً لأن بكين لم تكن طرفاً في معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، فقد كان لها حرية تجميع ترسانة مخيفة من الصواريخ متوسطة المدى لاستهداف القواعد والسفن وحلفاء الولايات المتحدة في غرب المحيط الهادئ. كانت واشنطن، بوصفها طرفاً في الاتفاقية مع روسيا، غير قادرة على الرد بنشر مثل هذه الصواريخ من تلقاء نفسها. ومع قيام الولايات المتحدة بتخفيض مخزونها النووي، علاوة على ذلك، بدأت الصين في بناء ترسانتها المتواضعة نسبياً.
في عام 2019، لاحظ رئيس «وكالة المخابرات الدفاعية الأميركية» أن بكين «من المرجح أن تضاعف على الأقل من حجم مخزونها النووي» خلال العقد المقبل. ووجدت الولايات المتحدة أن اتفاقيات الحد من السلاح الحالية لا تتناسب مع الوضع الاستراتيجي المتغير، بل إنها أضعفت موقفها في مواجهة بكين.
تشير ملاحظات بومبيو الأخيرة إلى رد الإدارة على هذه المشكلة. فبالانسحاب من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى، سعت الإدارة الأميركية إلى تحرير بلادها من الاتفاقات التي تعوق قدرتها على المنافسة مع روسيا أو الصين. فمن خلال الإشارة إلى توقعها أن تكون الاتفاقات المستقبلية ثلاثية، فإن الإدارة الأميركية تعلنها صراحة أنها لن تمنح الصين تصريحاً مجانياً.
ومن خلال إعادة الالتزام ببرنامج تطوير نووي كبير أعدته إدارة أوباما - في الوقت الذي تسعى فيه إلى ابتكارات مثل الأسلحة النووية ذات العائد المنخفض التي تهدف إلى تعزيز مصداقية الرادع الأميركي– فإن الإدارة تحاول الضغط في سبيل السماح بإبرام اتفاقيات أكثر فائدة للحد من السلاح في المستقبل. بكلمات أخرى، قبل أن تتمكن الولايات المتحدة من تقليص السلاح، يتعين عليها أن تبني.
هناك بعض المنطق الاستراتيجي السليم هنا. فمن غير المنطقي أن توجه إلى الأبد أجندة الولايات المتحدة للحد من التسلح لمواجهة التحدي الذي تفرضه روسيا في الوقت الذي باتت فيه الصين الآن المنافس الرئيسي. على الرغم من أن روسيا والصين تعملان على تحسين ترساناتهما النووية، فإنه من غير المفترض أن أياً منهما تريد منافسة استراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة غير المقيدة والمتفوقة اقتصادياً.
لم يكن الانسحاب من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى مدمراً لوحدة حلف شمال الأطلسي (ناتو) حسب اعتقاد بعض المراقبين في ذلك الوقت، إذ أن هناك إشارات مبكرة إلى أن حلفاء الولايات المتحدة في آسيا والمحيط الهادئ قد يكونون في نهاية المطاف مستعدين لاستضافة صواريخ متوسطة المدى (ربما تقليدية وليست نووية) على أراضيهم. الأهم من ذلك أن نهج إدارة ترمب يعكس فهماً للمنطق المتناقض للحد من التسلح - أن تكثيف سباق التسلح غالباً ما يكون شرطاً مسبقاً لإبطال تصعيده بشروط مواتية. ومع ذلك، تواجه الإدارة بعض التحديات الحقيقية:
أولاً، ليس لدى الصين في الوقت الحالي سبب وجيه لإبرام اتفاق ثلاثي حول أنظمة عابرة للقارات أو متوسطة المدى، تحديداً لأنها تتمتع بالعديد من مزايا الحد من التسلح مع القليل من الالتزامات.
يمكن للولايات المتحدة، بمرور الوقت، منح الصين سبباً للتعاون من خلال إظهار أن موقفها (الصين) سيزداد سوءاً مع نشر الولايات المتحدة لأنظمة متوسطة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وتحديث ترسانتها الخاصة. ولسوء الحظ، تم تأجيل برنامج التحديث الأميركي بشكل متكرر، ويبدو مستقبله غير مؤكد نظراً لاحتمال أن تتسبب جائحة فيروس «كورونا» في تدمير ميزانية الدفاع كما دمرت الاقتصاد. إذا نظر ترمب - أو غيره من الرؤساء من الحزب الديمقراطي في المستقبل – إلى الترسانة الأميركية باعتبارها مصدراً للادخار في الميزانية، فقد ينتهي الأمر بافتقار الولايات المتحدة للنفوذ المطلوب لإرغام منافسيها على الجلوس على الطاولة.
ثانياً، يجلب الإطار الثلاثي المخاطر والمزايا، إذ إن هذه المعادلة تتيح لواشنطن دق إسفين بمهارة بين روسيا والصين بتذكير موسكو بأن المجال النووي هو بالفعل، المجال الوحيد الذي لا تزال فيه متفوقة على بكين. ومع ذلك، قد يخلق هذا النسق أيضاً فرصاً لخصمين أميركيين للانضمام إلى واشنطن في المفاوضات، وهي الحيلة التي يبدو أن روسيا وإيران قد استخدمتاها في محادثاتهما التي أدَّت إلى إبرام اتفاق عام 2015 بشأن برنامج طهران النووي. بطريقة أو بأخرى، ستتطلب إدارة المفاوضات الثلاثية دبلوماسية معقدة ومنضبطة، وهي مهمة لا تتناسب مع شخصية ترمب.
ويتعلق تحدٍّ ثالث بالقرار على المدى القريب بشأن تمديد «معاهدة ستارت» الجديدة المنتهية الصلاحية مع روسيا لمدة خمس سنوات أخرى حتى عام 2026. وفي هذا الصدد، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إنه على استعداد للقيام بذلك، لكن إدارة ترمب ترفض الالتزام حتى الآن. قد يكون التفكير هو أن الصمود يزيد من النفوذ الدبلوماسي الأميركي على موسكو، بينما يسمح للولايات المتحدة بتأسيس المبدأ القائل بأن المفاوضات المستقبلية يجب أن تتجه إلى تنسيق ثلاثي مع الصين.
ومع ذلك، ليس من الواضح تماماً من سيستفيد إذا انقضت المعاهدة بالفعل. من الناحية النظرية، سيكون لدى كلا الطرفين عندئذ الحرية في البناء خارج حدود «معاهدة ستارت» الجديدة. ومن الناحية العملية، سيواجه كلا الجانبين قيوداً.
تتمتع روسيا بسبق البداية، بمعنى أن خطوط إنتاج الصواريخ لديها ساخنة بالفعل. لكن موسكو تعاني أيضاً من أزمة نقدية حادة بسبب انهيار أسعار النفط بالإضافة إلى الركود الاقتصادي الموجود مسبقاً، مما يعيق تحديثها أو يفرض عليها مقايضات حادة في مقابل أولويات أخرى عاجلاً أم آجلاً.
وتتمتع الولايات المتحدة بقدرة اقتصادية أكبر بكثير، لكن برنامج التحديث الخاص بها لن يكتسب زخماً حقيقياً حتى مرور فترة من حقبة عشرينات أو حتى ثلاثينات القرن الحالي، على افتراض أنها لن تتراجع بسبب التقشف المالي الناتج عن فيروس «كورونا». على المدى الطويل، من المؤكد أن سباق التسلح المكثف في صالح الولايات المتحدة. وعلى المدى القريب، فإن التوقعات تبدو أكثر قتامة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»