يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

ما بعد الجائحة: الانكفاء على الذات أم المشترك الإنساني؟

يكثر الحديث عن لحظة ما بعد جائحة «كورونا»، وأغلبها تصبّ في الجانب المتصل بسلامة المجتمعات، وتجنّب الوقوع مجدداً في أزمة الرعاية الصحية، والسيطرة على «الحشود»، إضافة إلى التحصينات حول الأوبئة، بكل أنواعها المصنعة أو الطبيعية، ومحاولة إيجاد حلول وبرامج استباقية طويلة الأمد، إضافة إلى الرقابة تجاه سلوكيات بعض الدول الغذائية، أو معاملها المعلنة والسرّية فيما يعرف بالأمن الوبائي.
الجانب الاقتصادي وتأثيرات ما بعد جائحة «كورونا» أيضاً، هو أحد أبرز الملفات التي يتم الحديث عنها باستفاضة بسبب التأثيرات الكارثية التي أحدثها الوباء، ويتوقع أن تستمر لفترة غير قصيرة ما قبل العودة إلى نقطة التعافي الاقتصادي؛ لكن ماذا عن القيم والمفاهيم الإنسانية المتمثلة في طبيعة رؤية الإنسان، والمجتمعات، والثقافات، والهويّات الخاصة إلى ذاتها وإلى الآخر؟! هل ستكون حالة ما بعد الوباء هي الغرق في الذات، والانكفاء عليها، والعودة إلى الهويّات الفرعية التي تبدأ من الفرد، فالعائلة، ثم المجتمع، والوطن، أم أن الجائحة أعطت درساً في شمولها، وإصابتها للجميع من دون استثناء أو تمييز ديني أو قومي أو عرقي على المصير المشترك للإنسان الكوني، وليس إنسان العولمة الذي كان متهماً بحالة الانصهار أكثر من الشعور بالذاتية، والمغايرة، مع تقدير هذا التنوع البشري الذي بدا مذهلاً عبر الشرفات حول العالم، وكل ثقافة تحاول منح نفسها العزاء على طريقتها الخاصة، وبلغتها التي تعبرّ عنها.
على مستوى الثقافة العربية والإسلامية، كان وما زال الدين علامة متجذرة في صناعة الخطاب الجمعي العام والوعي للمجتمعات، وهو عدا استثناءات متطرفة، تعامل بمسؤولية في الاستجابة لسلطة الفيروس أو سلطة الدولة، حسب جغرافيا البلدان، وعلاقتها بثنائية الاستقرار والانهيار لمفهوم السلطة والدولة، هذه الاستجابة للخطاب الديني أثناء الجائحة، بغض النظر عن التفسيرات، أو المعالجة لطريقة الاستجابة، لأنها جزء من طبيعة آليات التلقي لأي نظام ثقافي أو فكري، تقودنا إلى آمال عريضة في مرحلة ما بعد الجائحة في إنتاج قيم إنسانية كونية مبنية على ركيزة التسامح والمصير المشترك كهدف أساسي، وإن اختلفت التعبيرات عنه، سواء كانت دينية أو ثقافية أو فكرية، فالتواضع أمام المصير المشترك الذي تسبب فيه الوباء ساهم في تقليص حالة التقديس المزيف والخطابات الشمولية والنزعات اليقينية التي لا تؤمن بالآخر إلى أضيق حدودها، بعد أن كانت تنطلق في طريقة تناولها لمثل هذه المعضلات من زاوية تفردها، ونرجسيتها، كان الجميع يبحث عن النجاة في الوباء بدون ادعاء «الفرقة الناجية»، وكل تلك القراءات والتأويلات التي عكست ذلك الجدل بمنطقه المعرفي المحض حالة من الذاتية المفرطة في مقابل مفهوم الآخر والمشترك الإنساني.
بالطبع يمكن البناء على مستوى الخطاب الديني المؤسسي ما بعد الجائحة على تأسيس قيمة التسامح، والمشترك الإنساني، عبر استحضار العديد من ما يمكن وصفه بـ«قواعد الاستيعاب» في الإسلام، التي جاءت بتعبيرات كثيرة في النصوص المؤسسة، بشكل واضح وصريح، يهدم كل صروح النرجسية الفكرية، التي تعد من أعظم الأدواء التي أصابت الخطاب الإسلامي، بشكل عام، بترهل وضمور شديدين: «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها»، ولذا فنحن بحاجة إلى دراسات تأصيلية جادة تستلهم روح «الاستيعاب» في الإسلام، من خلال قراءة نصوصه والممارسة العملية لذلك الاستيعاب عبر تاريخه الطويل.
منذ عقود، وعالمنا غارق في تحولات متسارعة على المستوى السياسي والاجتماعي، محمولاً على تقدم هائل في وسائل التواصل، وتكنولوجيا الاتصالات، وسيولة متدفقة للمعلومات، ومع ذلك كله؛ فإن من بداهة القول إنه ولج في نفق من العتمة المتمثلة في صعود أعمال العنف، وحوادث الإرهاب، وخطابات الكراهية والتمييز الديني والعرقي، مختبراً أبشع صور المذابح والقتل والأزمات والدمار التي انكفأت فيها كثير من المجتمعات على ذاتها منقسمة إلى جزر من التعصب والانشقاقات بين أبناء المجتمع الواحد والدولة القُطرية التي تعاني من أزمة «المواطنة» على حساب تحديات للأقليات الدينية، والعصبيات القومية والعرقية.
البشرية تعاني اليوم من غياب «التسامح» الذي لا يحضر إلا في البروتوكولات الدبلوماسية، وشعارات الإعلام، والخطب العصماء في المناسبات الوطنية في حين أن نقائضه من التعصب والعنف جعلتنا نشهد قرناً ألقى بظلاله القاتمة مخلفاً حربين عالميتين، وعشرات الحروب بين الدول، وحروباً أهلية، واضطهاداً للأقليات الدينية، أو خوفاً متنامياً في المجتمعات الآمنة من الآخر المختلف بعد موجات النزوح للمهاجرين والناجين من الكوارث والنكبات والباحثين - وهم بالملايين - عن ملاذات آمنة، ولو في أماكن نائية عن بلدانهم الأصلية.
التسامح تلك الفضيلة التي تنشدها المجتمعات الحديثة لم تعد مجرد قيمة إنسانية عليا أو فريضة دينية، وواجباً ملحاً لنداءات الضمير، بل باتت في عالم مضطرب ومعقد ومتشابك، مطلباً ملحاً لاستقرار المجتمعات، وأمن الدول يجب أن يبنى على الاعتراف القانوني والدستوري والأخلاقي والديني بحق الآخر المختلف المتساوي في المواطنة على مستوى الحقوق والواجبات، في ظل التنوع البشري الهائل تحت كنف الدولة الواحدة المتعددة الأعراق والأجناس والمذاهب والأديان والأهواء، لكنهم كذلك لا يمكن أن يعيشوا بكرامة وسلام من دون الوصول إلى صيغة توافقية لتحويل التسامح من خطاب إلى ممارسة عملية وواقع معيش، وليس مجرد تنظير فكري.
ما بعد الجائحة، وتعزيزاً لحالة التلقي الديني المسؤول إجمالاً للوباء، أعتقد أن من المهم اجتراح حوارات جادة وصادقة بين الفاعلين الدينيين في العالم من كل الأديان والثقافات الأخرى، ليجمعهم تحت سقف واحد فيما يشبه ورش العمل التحضيرية للخروج بصيغة توافقية، بناءً على إعادة تفعيل «صحيفة المدينة»، روح عصرية ومدنية تعترف بشكل مبدئي وقانوني بمفهوم المواطنة وحقوق المواطنين مهما تمايزت خلفياتهم الدينية والعرقية والمذهبية، وهو ما تم عمل شيء مشابه له في إعلان مراكش العام الفائت.
في لحظات سابقة كان غياب التسامح وما يخلفه من تعصب وتمييز وإقصاء ظاهرة تخص الدول النامية، لكنه بفعل الاتصال البشري، والهجرات الجماعية، صار أحد أهم تحديات الدول المتقدمة التي تعاني هي أيضاً من نزعات تقويضية ضد تسامح مواطنيها، فالتسامح هنا ضرورة معيشية لضمان كبح جماح التطرف، وتشمل نطاقات أوسع، منها التسامح السياسي، والديني، والاجتماعي، والفكري، والعرقي.. بمعنى آخر قبول للآخر غير مشروط بحالة جائحة أو وباء، عالم جعل البشر أمام الخوف من الإصابة أو الموت سواسية كأسنان المشط!