أليكس ويب
TT

«أبل» و«غوغل» ومواجهة الوباء

أعترف أن الأمر يبدو مربكاً، فعلى مدار الأعوام الأربعة الماضية كانت الرسالة: «لا تثقوا بالشركات التكنولوجية الكبرى بإعطائها بياناتكم!» الآن، تعرض «أبل إنك» و«غوغل» أداة لاقتفاء أثر وباء فيروس «كوفيد - 19»، الأمر الذي يتطلب منك كمستخدم تقديم مزيد من المعلومات إلى هاتفك الذكي، ومنها معلومات حساسة. وترغب الشركتان في معرفة ما إذا كنت قد أصبت بالفيروس أو تعرضت له.
كانت الشركتان التكنولوجيتان العملاقتان قد أعلنتا عن أداة لتعقب التفاعل في أنظمة التشغيل بالهواتف الذكية التي ينتجها الجانبان، والتي ستجري إتاحتها أمام السلطات المعنية بالصحة العامة في كل مكان. ورغم أن هذا ليس الترياق السحري القادر على حل جميع المشكلات، لكن حال نشر هذه الأداة بفاعلية من الممكن أن تضطلع بدور محوري في اقتفاء أثر تفشي الوباء.
وربما على عكس ما يبدو عليه الأمر، فإن توجه «سيليكون فالي» ربما يحمي الخصوصية على نحو أفضل عن أي جهود حكومية، ذلك أن هذا التوجه لا يتشارك في أي بيانات مع سلطات لا تملك البيانات بالفعل؛ بمعنى من جاءت نتيجة اختبار الإصابة بالفيروس لديهم إيجابية.
وإذا أملنا في رفع إجراءات الإغلاق قبل التوصل إلى لقاح، فإن اقتفاء أثر الاتصال - أي تحديد من كانوا على مقربة من الأشخاص المصابين - سيشكل عنصراً ضرورياً، وهذا ما يؤكده رئيس مراكز مكافحة الأمراض واتقائها، ويتفق معه مركز أمن الصحة التابع لجامعة جونز هوبكينز، وكذلك حكام ولايات نيويورك وماساتشوستس وماريلاند وواشنطن وغيرهم. كما تضطلع مسألة اقتفاء الاتصال دوراً محورياً في استراتيجية ألمانيا في التصدي للوباء.
تكمن المشكلة في الحجم. في الوقت الحالي، تعتبر جهود اقتفاء الاتصال في الجزء الأكبر منها تناظرية أو «أنالوج»، وتقوم على توجيه أسئلة لمريض بالفيروس عن تحركاته خلال الـ14 يوماً السابقة، ومحاولة تحديد الأشخاص الذين ربما اتصل بهم. وإذا كان لديك أكثر عن 100 ألف حالة إصابة مؤكدة، مثلما الحال داخل المملكة المتحدة، فإن هذا يتطلب مجهوداً هائلاً. وأفاد تقرير صادر عن باحثين معنيين بمجال الصحة العامة لدى جامعة جونز هوبكينز و«اتحاد مسؤولي الصحة على مستوى الولايات والأقاليم» بأن الولايات المتحدة وحدها بحاجة للاستعانة بـ100 ألف شخص على الأقل للعمل على اقتفاء الاتصال فيما يخص حالات الإصابة بفيروس «كورونا». أما العدد الفعلي حالياً فيقدر بـ2200 فقط.
إلا أن الحكومات ستحتاج إلى عدد أقل بكثير من مقتفي أثر الاتصال إذا توافرت لديها الأداة التكنولوجية المناسبة، التي تبدو «غوغل» و«أبل» - اللتان تسيطران على كامل سوق أنظمة تشغل الهواتف الذكية - في وضع نموذجي يمكنهما من توفيرها. جدير بالذكر هنا أن «غوغل» نجحت في بناء نشاط تجاري بمجال الإعلانات بقيمة إجمالية تبلغ 135 مليار دولار عبر تقليصها الحاجة إلى مراقبة البشر، والاعتماد بدلاً عن ذلك على التتبع واقتفاء الأثر المميكن ونشر ملايين الإعلانات. في الواقع، إنجاز الأعمال على مساحة وأحجام هائلة يمثل نقطة قوة «غوغل».
أما المنظومة المقترحة من جانب الشركتين، التي من المفترض أن تصبح جاهزة في منتصف مايو (أيار)، فستعتمد على اتصالات «البلوتوث» في الهواتف الذكية. وسيبدأ كل هاتف في خلق مفاتيح هوية مشفرة ومجهولة الهوية (سلسلة مشفرة من أرقام وحروف)، تتغير كل 15 دقيقة، والتي سيجري نقلها عبر «بلوتوث» إلى الهواتف القريبة. وإذا كنت على مسافة 10 أقدام من شخص ما لمدة 10 دقائق - لا يزال يجري العمل على تحديد العوامل المحددة - سيتبادل الهاتفان مفاتيح التعريف الخاصة بهما.
وحال التأكد من إصابة مالك واحد من الهواتف الذكية بالفيروس، فإن المنشأة الطبية التي أجرت الاختبار سيصبح لديها شفرة خاصة لدخول التطبيق. وبعد ذلك، سيتولى التطبيق تحميل جميع المفاتيح التعريفية التي خزنها الهاتف على مدار الأيام الـ14 الماضية على كومبيوتر خادم مركزي. وإذا كنت تود استخدام هذا التطبيق، فإنه سيتعين عليك تفعيل «بلوتوث»، وإذا كنت قد وجدت على مقربة من الشخص الذي تأكدت إصابته بالفيروس، ستتلقى تنبيهاً يفيد ذلك.
المهم في الأمر أن التطبيق لن يخبرك هوية الشخص ولا أين التقيته، إنه وضع أشبه بأن يخبرك موقع «تندر» بأن شخصاً وضع علامة إعجاب على صورة لك، من دون أن يخبرك من هو. والمهم كذلك أنه بينما ينبهك الهاتف إلى التعرض لشخص مصاب، فإنه لن يخبر أي شخص آخر. وسيعود الأمر لك إذا قررت اتباع أي بروتوكولات للعزل الذاتي. أما السلطات الصحية فلن تعلم بالأمر، أو على الأقل هكذا تقول النظرية. كما لن تتلقى أي تفاصيل بخصوص تحركات الشخص المصاب على مدار الـ14 يوماً السابقة.
وثمة توجه تكنولوجي آخر، جربته سنغافورة، لكنه يحمل تداعيات أسوأ بكثير لأنه يعني أن جميع البيانات المتعلقة باقتفاء أثر الاتصال التي يجمعها هاتفك سيجري إرسالها إلى خادم مركزي، بدلاً من إرسال البيانات المعنية فقط حال تحديد أنك دخلت في اتصال مع شخص مصاب. وستجري إدارة قاعدة البيانات المركزية تلك من جانب حكومات عبر السلطات الصحية التابعة لها، وقد يجعل هذا من مهمة اقتفاء أثر تحركات الجميع مهمة أسهل بكثير، أو على الأقل أي شخص يستخدم التطبيق. وحتى إذا جرى التعتيم على هوية البيانات، فإن الأمر سيتطلب قدراً هائلاً من الثقة من جانب المواطنين في السياسيين في عدم استغلال المنظومة في أغراض رديئة.
من ناحيته، أقر الاتحاد الأوروبي كلاً من هذا التوجه المركزي، مع إصداره إرشادات صارمة، والتوجه اللامركزي الذي تفضله الشركتان التكنولوجيتان العملاقتان. في كلتا الحالتين، لن تعمل المنظومة سوى خلال إقرارها على نطاق واسع.
ومع هذا، يبقى بمقدور التقنية المقترحة من جانب «أبل» و«غوغل» وضع سلطة اقتفاء أثر الاتصال في أيدي السلطات الوطنية، لكن الأفراد سيتشاركون مع الدولة في الحد الأدنى الضروري من البيانات مع الدولة. الحقيقة أن الشركتين لا تبنيان تطبيقاً بالمعنى المتعارف عليه، وإنما توفران أداة إلى الخدمات الصحية لإنشاء التطبيق الخاص بها. وحال إساءة تلك الخدمات استغلال البيانات المتاحة لديها، سيبقى بإمكان «أبل» و«غوغل» حجب التطبيقات التي يرونها غير مناسبة من متاجرهما عبر الإنترنت.
والتساؤل الآن: هل خرجت علينا الشركتان بحل نموذجي؟ لا، فقد تتلقى تنبيهاً بأنك تعرضت لشخص مصاب بينما هناك جدار بينكما، لكن التعقب البشري لا يخلو من الأخطاء هو الآخر. نظرياً، قد يكون من الممكن أن يجري الكشف عن الأشخاص وأماكن وجودهم من بيانات «غوغل» و«أبل»، لكن التكلفة والمجهود اللازمين لذلك يجعل المهمة شبه مستحيلة.
وعليه، فإنه إذا كانت لدينا رغبة حقيقية في تجنب البقاء في حالة الإغلاق للعام القادم، فإن مزايا التوجه الجديد ربما تفوق مخاطره.

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»