حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

في العهد «القوي»... إعاشة و«صوملة» لبنان بأوامر «حزب الله»

اليوم الخميس تكمل الحكومة - الواجهة 93 يوماً في مقاعد الحكم الوثيرة، ما يعني أن مهلة الـ100 يوم التقليدية شارفت على النهاية، والخلاصة بما يعني المواطن المسحوق: صفر إنجازات، يقابله مزيد من تفكك المؤسسات الرسمية، ووضع القيود على الحريات وتكثيف الإجراءات ذات الطابع البوليسي!
الوقت المستقطع بعد الخروج من الساحات نتيجة الحجْر الطوعي الواسع لإبطاء انتشار وباء «كورونا»، استغلته السلطة ورعاتها: الثنائي «حزب الله» و«التيار العوني»، من جهة أولى بهدف ترميم نظام المحاصصة وتلميع القوى الحزبية الطائفية وتغطية سلوكها من خلال تعميم منحى الرشوة في كرتونة إعاشة، ومن جهة ثانية في فرقعة إعلامية تحصر المسؤولية عن الانهيار، بمن هم اليوم خارج جنة الحكم، فتحمل «الحريرية السياسية» وجنبلاط، تبعات سياسات الثلاثين سنة الماضية، لتعلن أن السلطة الحالية ورعاتها لا ناقة لهم ولا جمل في إفلاس البلد وتجويع أهله! يتم ذلك في سياق السعي إلى تبرئة الذات، وتغطية عدم جدارة الحكومة وأهليتها، في التصدي للمهمة المحورية التي شُكلت من أجلها، ألا وهي تقديم رؤية إنقاذية لإخراج البلد من الدرك الذي انحدر إليه، فإذا بهم وكلاء تفليسة، وأداة إحكام الثنائي القبضة على المتبقي من الدولة! بالمقابل لم تُظهر الجهات المهيمنة على الرئاسة والبرلمان والحكومة، أي منحى عن اعتزامها الشروع في خطوات تفرمل الانهيار والمجاعة!
تستدعي السلطة مجلس النواب الفاقد للشرعية الشعبية، فينعقد في قصر الأونيسكو بعد تحويله إلى ثكنة عسكرية، وقد خلا جدول الأعمال من أي حلول أو رؤية لأي من أزمات البلد، ليتبين أن الهدف الحقيقي هو إتاحة الفرصة للقوى الطائفية لأن تحقق مكاسب سياسية، من خلال سن قوانين من نوع تشريع زراعة «القنب الهندي»، وإصدار عفو عام وهو وصفة ممتازة للرشوة، وتبييض صفحات بعض الجهات، خصوصاً أنه يشمل تجار المخدرات ومروجيها، ومرتكبي جرائم العنف الأسري والقتل، وما هم ولو تحول لبنان إلى غابة، خصوصاً مع بقية القوانين كالعفو عن السطو على المال العام ومرتكبي الجرائم البيئية، والذريعة تخفيف الازدحام في السجون!
وسط هذه الظروف عاد الشارع لإسماع صوته لـ«من به صمم»، والسلطة التي اعتبرت ثورة تشرين ماضياً وانقضى، تفاجأت بالمظاهرات السيارة تجمع كل مناطق لبنان إلى العاصمة. 17 تشرين لن تتكرر بتفاصيلها، فالأكيد أن فئات واسعة ستحملها الموجة الثانية لأن حجم البطالة قبل 6 أشهر أصبح أدنى بكثير مما هي اليوم، كُثر لم يكونوا قد خسروا رواتبهم الشهرية، وكانت هناك ديمومة وظائف، والأقسى هو انهيار قيمة الليرة إذ حلق سعر صرف الدولار من 1500 ليرة إلى 3250 ليرة! وكرست قرارات مصرف لبنان «هيركات» فعلي شمل الأجور المدولرة كما الودائع التي لن تُدفع إلا بالليرة وأقل من سعر السوق بنحو 25 في المائة، فأعلنت المظاهرات أن الوباء لن يكتم الأصوات الحرة، وأن الموت جرّاء «كورونا» يمكن تفاديه، لكن الإصرار على المضي في إعادة إنتاج نظام النهب هو ما يهدد بقتل الناس جوعاً بعد المذلة. الوقت المستقطع انتهى والإفقار والقمع سيزيدان الاشتعال الشعبي، والاشتباك السياسي يعود بقوة أكبر بين الساحات الممثلة لأغلبية اللبنانيين وبين الطبقة السياسية، سواء من هم في جنة الحكم أو خارجه، لأنهم بالتكافل والتضامن يتحملون مسؤولية إفلاس البلد وتجويع أهله!
ليست معنية ثورة تشرين بالخلاف والصراع الفوقي بين طرفي المعادلة الطائفية، أي ما كان يعرف بين 8 و14 آذار، وعندما رفعت شعار «كلن يعني كلن» لم تعن نصفهم. من هم اليوم خارج جبنة المحاصصة لا تمت سياستهم بصلة لجوهر المعارضة الحقيقية ومطالبها، ولن تنسى الساحات وجموعها أنهم هم من أمن الثقة النيابية الملتبسة للحكومة التي شكلها «حزب الله»!
بالمقابل رئيس البرلمان نبيه بري الفاعل في الحكومة لا تعرف الأجيال الشابة رئيساً غيره للمجلس النيابي. أما «حزب الله» فهو شريك أصيل في المسؤولية عن كل السياسات التي اعتمدت منذ عام 1996، وبعد اتفاق الدوحة استحوذ على الفيتو وبصماته أساسية في كل القرارات. أما التيار العوني فهو الشريك الأفعل في كل الحكومات بعد عام 2008، وكانت له الحصة الوزارية الأكبر، حتى إن النكتة الرائجة تقول إن وزارات بعينها تم تسجيلها على اسمه كالطاقة مثلاً التي رتبت ديْناً عاماً في الكهرباء تجاوز 42 مليار دولار، والأرقام التي هُدرت على سياسة السدود ليست بسيطة!
بدأ الانهيار في عجز ميزان المدفوعات منذ عام 2011 ليصل العجز التراكمي في عام 2019 إلى أكثر من 20 مليار دولار. وطيلة هذه الحقبة ومع الفراغ المتمادي في الرئاسة لمدة 30 شهراً حتى فُرض المرشح الوحيد لـ«حزب الله»، وبعده حكومة الحريري الأولى والحكومة الثانية التي أسقطتها ثورة تشرين، حملت الموازنات المتتالية التي أقرها المجلس النيابي بأرقامها الوهمية ومشاريع الهدر والتوظيف العشوائي، ومختلف أبواب الإنفاق التي فاقت الواردات، ما تسبب في رفع الديْن 55 في المائة. كل ليرة صرفت كان الجميع يعرف أنها ديْن وتنفق من ودائع اللبنانيين، وبالمقابل استبيحت أملاك الدولة وبالأخص ما تمت السيطرة عليه من الأملاك البحرية والنهرية والمشاعات التي توازي عشرات مليارات الدولارات، بعدما أكل الاقتصاد الأسود نحو 30 في المائة من واردات الخزينة. كانت الحصة الأكبر لـ«حزب الله» الذي أدار اقتصاداً موازياً، وأمسك بالمعابر الشرعية وغير الشرعية، وأدت إملاءاته إلى عزلة خانقة تفاقمت مع العقوبات فشحت الأموال وعزّ وجود الدولار... وتقدمت احتمالات «الصوملة» بأوامر «حزب الله»!
احتلت صدارة اهتمام المواطنين مطالب شعبية من نوع مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة واستعادة الودائع المحجوزة قسراً في البنوك، لكن التجربة تظهر أن ذلك ليس في أولوية السلطة، التي امتنعت عن المس بأماكن الهدر والفساد. هذا بالضبط ما حفّز التحرك الشعبي على التمسك بمطلب إسقاط حكومة الواجهة، والإصرار على مرحلة انتقالية تقودها حكومة مستقلين عن الأحزاب الطائفية، تحضر البلد لإنجاز عملية إعادة تكوين للسلطة، بما في ذلك تقصير الولاية الرئاسية. طبعاً المرحلة دقيقة ومعقدة وصعبة، فقوى النظام الطائفي لن تتراجع بسهولة، وتملك أدوات القوة والتحريض وإلصاق التهم، لكنها تعرف أن كل تأخير في التغيير الحقيقي سيعجل في انفجار أزمة الجوع التي زحفت لتغطي كل الخريطة اللبنانية.