د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

عندما نلتقي مرة أخرى!

عندما تحدثت الملكة إليزابيث الثانية من خلال رسالة متلفزة لرفع معنويات شعبها في مواجهة فيروس «كورونا»، في الخامس من أبريل (نيسان)، لم تجد أفضل من الاستعانة بكلمات أغنية رددها الجنود البريطانيون في الحرب العالمية الثانية كان مطلعها «سوف نلتقي مرة أخرى». والعالم اليوم يخوض فعلاً غمار حروب ضارية «لتسطيح المنحنيات». حرب للسيطرة على تزايد ارتفاع منحنى الإصابات بفيروس «كورونا». وبعد انخفاض معدلات نمو الناتج العالمي لسالب 3 في المائة، فهناك حرب أخرى لمنع منحنى النمو الاقتصادي من مواصلة انحداره في مرحلة ركود، هي الأشد منذ الكساد الكبير في القرن الماضي، وحرب لكبح تزايد منحنيات حالات التعثر والإفلاس، وما يترتب على ذلك كله من زيادة في معدلات البطالة وانخفاض الدخول.
وعندما سيعاود الناس لقاءاتهم بعد زوال غمة الجائحة فسنكون بصدد عالم مختلف. تسهم في تشكيل معالم هذا العالم الجديد الأزمات الراهنة وأساليب التعامل معها، فضلاً عن مزيج من عوامل أخرى سبقتها وصاحبتها، على اختلاف في قوتها وتأثيراتها الإيجابية والسلبية. فليس فيروس «كورونا» مجرد قشة قصمت ظهر بعير، كما يقول البعض، فالوباء في حد ذاته شر كبير كما أن القواصم المصاحبة له كثر.
فالأزمات الراهنة، التي جاءت كإعصار كامل، هي في الواقع أزمات كاشفة ومعجلة ومنشئة في آن واحد. فهي كاشفة لحقيقة أوضاع ومواطن قوة وضعف لمجتمعات ونظم ومؤسسات؛ ومعجلة بسقوط وصعود كيانات ومنتجات وظواهر؛ ومنشئة لأوضاع وتوازنات وعلاقات جديدة.
ألم تكشف هذه الأزمات، على سبيل المثال، عن مدى استعداد نظم الطب الوقائي، في بلدان متقدمة ونامية، بين نجاح وفشل وصمود وانهيار؟ ألم تُعجل هذه الأزمات ببزوغ وانتشار تطبيقات تكنولوجيا المعلومات في التواصل، بين المتباعدين قسراً، لإنجاز الأعمال وعقد الاجتماعات، وفي التعليم والتدريب وتسوية المعاملات المالية؟ وستنشئ هذه الأزمة تبعاً لذلك في هذه المجالات وغيرها أوضاعاً وعلاقات جديدة داخل الدول وبين بعضها بعضاً ستتطور، كرهاً أو طوعاً.
لا يمكن التنبؤ بقدر مقبول من الاحتمال متى ستنتهي هذه الجائحة، فهو أمر معلق على اطمئنان النظم الصحية على علاج ناجع جنباً إلى جنب مع قدرات الاختبار والتتبع، فضلاً عن نجاح جهود تطوير اللقاح الواقي. هذا علماً بأن هناك سباقاً بين جهات علمية وبحثية حول العالم لتطوير أنواع مختلفة للقاح بلغ عددها 86 من اللقاحات في مراحل من البحث والاختبار والتطوير، وفقاً لمجلة «الإكونوميست» الصادرة في هذا الأسبوع. لكن عملية الإتاحة للتطعيم في مسارها المتعارف عليه قد تستغرق 18 شهراً وفقاً لبعض التقديرات العلمية.
لكن، وفقاً للمصدر ذاته، فقد أخذت عملية تطوير اللقاح المضاد لفيروس الإيبولا عشرة أشهر فقط بعد اختبارات المرحلة الأولى في بريطانيا وكينيا وأميركا على متطوعين أصحاء، حتى اختبارات الفاعلية على المرضى في غرب أفريقيا في 2015. وكان ذلك كله بفضل ما قام به علماء كنديون في التسعينات من القرن الماضي من تطوير للقاح فكان جاهزاً للاختبار في عام 2005 حتى احتاج إليه المرضى بعدها بعشر سنوات. الوضع اليوم عالمياً أسوأ من أزمة إيبولا؛ فضحايا فيروس «كورونا» في غضون ثلاثة أيام فقط في هذا الشهر أكثر من ضحايا فيروس إيبولا في ثلاث سنوات الذين بلغ عددهم أحد عشر ألفاً. هذا يزيد من الرغبة في تطوير اللقاح وإعطائه الأولوية في منظومة عالمية تنتج 5 مليارات من اللقاحات المختلفة، يمكن تدعيمها وزيادتها شريطة الاتفاق علمياً على ما ستنتجه من لقاح ضد فيروس «كورونا»، الذي يجب توفيره للكافة من دون عائق، وهو أمر يستوجب تعاوناً دولياً فعالاً على النحو الذي تشير إليه تجربة التعامل مع فيروس إيبولا.
في هذه الأثناء هناك جهود وتضحيات إنسانية واقتصادية فائقة تبذل على جبهات الوقاية من خلال التباعد الاجتماعي واتباع التعليمات الصحية والإغلاق الكلي أو الجزئي لأنشطة الحياة والاقتصاد. وإذا كان من الممكن إغلاق الاقتصاد بمطرقة الأوامر الإدارية، كما ذكر إيان بريمر، عالم السياسة الأميركي، حرصاً على الصحة العامة، فإن إعادة فتحه مرة أخرى تستلزم مشرط جراح ماهر؛ حتى لا يتسبب الأمر في انتكاسات مَرَضية لا قِبل لأحد بتحمل تبعاتها أخلاقياً أو سياسياً، وستنوء بأعبائها المشافي والنظم الصحية.
وتتلمس القطاعات والأنشطة الاقتصادية بدائل فعّلتها وعجّلت بها ظروف الأزمة، مثل العمل، والتعلم عن بُعد، وزيادة عمليات التجارة الإلكترونية، وتسوية المعاملات بالتقنيات المالية. وستستمر مثل هذه الأنماط مستقبلاً مع تفضيل أن يكون النشاط قريباً من أسواق الاستهلاك، على حساب عولمة سلاسل الإنتاج، ولو كان ذلك بتكلفة أكبر وكفاءة أقل لتأمين الاحتياجات الضرورية. وستظهر أيضاً نظم مهجّنة تمزج بين أنماط ما قبل الأزمة الراهنة وما استجد بعدها.
ومن تلك النظم ما اقترحه جو جونسون، زميل مدرسة كيندي بهارفارد، عن مزج التعليم التقليدي بالتعليم عن بُعد من خلال المشاركات بين المؤسسات الجامعية، مدعومة بنظم للتعليم عن بُعد، توفيراً للنفقات وتكاليف السفر، وتجنباً لمعوقاته وتأشيرات القبول للدراسة في الخارج، وفي ذلك مجال كبير للجامعات العربية المؤهلة لمثل هذه المشاركات تستقطب أبناءها وغيرهم في محيطها الإقليمي.
عندما نلتقي مرة أخرى لن تكون حياة عموم الناس وممارساتهم وسلوكهم في الشارع وفي دور العلم والعمل وفي مجالات الرياضة والترفيه كما كانت. فقد شهد التاريخ المعاصر أزمات أخف حدة وصدمات أقل وطأة بدلت أنماط السلوك والحياة في الحل والترحال، وقد كانت فاصلة لما قبلها عما بعدها. وهناك أمور وإجراءات قد فُرضت ستستمر رغم الظن بقرب زوالها.
وليراجع قديمو العهد بالسفر ما كان من تغير بعد أحداث الإرهاب في إجراءات السفر والأمن وبوابات التفتيش المتعددة في المطارات وعبر الحدود. وقياساً على ذلك، فلنستشرف ما سيكون من إجراءات ملزمة، بعد انجلاء الأزمة ستتعلق بالأمان الصحي ومستلزماته من اختبارات صحية ستُطلب، وتأمين إضافي للسفر سيستُوجب، هذا بعد تحقق إضافي إذا ما كان للسفر ضرورة لعمل، أو تكون في السفر رغبة حقاً لأصحاب الاستطاعة على تحمل مكارهه. هذه إجراءات في نهاية الأمر ستكون مقيدة، لكنها لن تكون مانعة إلا إذا أريد لها ذلك.
وفي كل الأحوال ستزيد توقعات عموم الناس ومطالبهم في أن تكون الحياة في هذا العالم الجديد أكثر إنصافاً واحتراماً لحقوقهم في رعاية صحية أفضل وتعليم أرقى وفرص أكثر عدلاً، وألا تجور أنشطة قطاعات الإنتاج والأعمال والنقل على ضوابط حماية البيئة والمناخ.