حين ضربت كارثة «كورونا» العالم، كانت الصين ومصر في خضمّ تنفيذ برامج طموحة للانتقال إلى مصادر أنظف لإنتاج الكهرباء، والاستغناء تدريجياً عن الفحم الحجري. فهل يتأخر مسار التغيير بسبب الانهيار الاقتصادي المنتظر، أم أن عجلة التغيير دارت ولن تعود إلى الوراء؟
بدأت مصر قبل شهور إلغاء مشاريع توليد الكهرباء من الفحم الحجري، لمصلحة الطاقة المتجددة. وإذا كان لرعاية البيئة دور في هذا القرار، فالواقع أن التغيير استند لأسباب اقتصادية في الغالب.
النقص الحاد في الكهرباء، الذي تواجهه مصر منذ سنوات، دفعها إلى العمل على تنويع مصادر الطاقة. وهي نجحت في الرهان، إذ استطاعت تجاوز الأزمة خلال فترة قياسية، بالتعاون مع شركات عالمية مختصة. ومع أن الخطة المرحلية اعتمدت أساساً الغاز والطاقات المتجددة، إلاّ أنها تضمنت أيضاً بعض المحطات العاملة على الفحم الحجري.
لحسن حظ البيئة، جاء تنفيذ هذه المحطات في مرحلة متأخرة من الخطة، مما أفسح المجال لإعادة النظر في خيار الفحم من الأساس.
فما مبرّر استخدام الفحم المستورد، في تقنيات تحوم حول سلامتها شكوك؟
تباشير التبديل في الموقف جاءت قبل شهور، حين عرضت وزارة الكهرباء على مستثمر إماراتي رسا عليه مشروع محطة فحم في عيون موسى، استبداله بمشروعين بديلين: الأول مزرعة رياح بقدرة 500 ميغاواط، والثاني حقل للكهرباء الشمسية بقدرة 200 ميغاواط. وقد يكون هذا بداية لإلغاء فكرة استخدام الفحم الحجري من الأساس.
السماح باستخدام الفحم الحجري في مصر جُوبِهَ برفض حاسم من وزيرة البيئة آنذاك، ليلى إسكندر، أدى إلى إخراجها من وزارة البيئة عام 2014. فقد كان بقاؤها في البيئة مشروطاً بقبولها الموافقة على استخدام الفحم في الصناعة، خاصة الإسمنت.
وإذ تم تمرير القرار فور إزاحة إسكندر، تم تعديله بعد سنتين ليشمل استخدام الفحم في توليد الكهرباء أيضاً. وأعقب هذا حصول مجموعة من الشركات الصينية على عقد لإقامة محطة كهربائية في الحمراوين تعمل على ما يُسمى «الفحم النظيف». وإذا كان من الثابت أن هذه التقنية تولّد انبعاثات كربونية تقلّ كثيراً عن الأساليب القديمة، لكن آثارها البيئية، من الاستخراج إلى التصنيع والاستخدام، لا تزال كبيرة.
السبب المعلن لإعادة النظر في إنتاج الكهرباء من الفحم الحجري كان انتفاء الحاجة إلى كميات إضافية كبيرة من الكهرباء في الوقت الحاضر، نظراً إلى أن الشبكة المصرية تستقبل فائضاً يتجاوز 17 ألف ميغاواط.
لكن استبدال الفحم بالطاقات المتجددة النظيفة، ولا سيما الشمس والرياح، يُظهر أن هناك أسباباً أخرى، في طليعتها مقارنة التكاليف بين الخيارات المتاحة. فالشركات التي بنت أخيراً مزارع الرياح والشمس في مصر، عن طريق استثمارات خاصة وبلا تكاليف على الحكومة، تبيع الكيلوواط-ساعة بما بين 2–3 سنتات، وهو أقل من كلفة الإنتاج من الفحم، علما بأن كلفة الإنتاج من الطاقات المتجددة مستمرة في الانخفاض.
وقد يكون السبب الثاني لإعادة النظر في محطات الفحم أن معظم مؤسسات التمويل، وفي طليعتها البنك الدولي، أوقف منح القروض لمشاريع الطاقة التقليدية. العوامل الاقتصادية في هذه الحال تدعم البيئة، كما حصل في الولايات المتحدة أيضاً. فرغم أن الرئيس دونالد ترمب أزال القيود على صناعة الفحم، تشجيعاً لإعادة تشغيل المناجم المقفلة في بعض الولايات الأميركية، إلا أن هذا لم ينجح في إحياء الصناعة، لأن الطاقات المتجددة واكتشافات الغاز الطبيعي الجديدة أمّنت بدائل أرخص، وليس فقط أنظف.
تبقى الصين المصدر الأساسي لمحطات الفحم، داخل حدودها وحول العالم، مع أن الرئيس الصيني التزم بالتقليل من اعتماد بلده على الفحم، بناءً على تعهداته في قمة باريس المناخية بشأن تخفيض جذري لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ووضع حدّ لأي زيادة مع حلول سنة 2030. لكن من الواضح أن الالتزامات البيئية تصطدم مع الطموح الاقتصادي.
الصين هي المنتج والمستهلك الأول للفحم الحجري في العالم، متفوقة بأشواط على منافسيها الرئيسيين مثل الولايات المتحدة وأستراليا والهند. وهي تبني معظم محطات الفحم الضخمة في الدول النامية.
لكنها في الوقت نفسه تقود العالم في الطاقة المتجددة، إذ بلغ حجم استثماراتها الداخلية في مشاريع الشمس والرياح نصف المجموع العالمي، عدا أنها تتبوأ المركز الأول في لائحة مصدّري تقنيات الطاقة المتجددة.
هنا يكمن التناقض: البلد الأول في الطاقة المتجددة هو البلد الأول في محطات الفحم. فالصين حالياً مسؤولة عن إنشاء أو تمويل واحدة من كل أربع محطات كهربائية تعمل على الفحم في العالم. وهي بدأت مخالفتها بصمت، بعد فترة قصيرة من إعلانها عن قيود على محطات الفحم، عقب اتفاق باريس عام 2015. فقد عاد العمل في بناء بعض المحطات التي أوقفت تراخيصها، من دون الإعلان رسمياً عن هذا. والسبب الوحيد هو تحفيز النموّ الاقتصادي السريع. وفي هذه الأثناء، بدأت وزارة البيئة الصينية تتحدث عن تطويرها تقنيات جديدة لاستخدام الفحم الحجري بأساليب أكثر كفاءة ونظافة. وليس هناك ما يضمن مدى فاعلية هذه التقنيات.
إلى أن تحلّ الصين مشكلتها مع الفحم والتزاماتها المناخية، على الدول الأخرى السعي إلى تحقيق مصالحها بالاعتماد على مصادر الطاقة الأجدى والأرخص والأنظف، بدءاً من تلك المتوافرة محلياً أو من دول الجوار.
ولا شك أن الصين نفسها، بعد جائحة «كورونا»، ستعيد النظر في وتيرة النموّ المنفلت، باعتماد نهج يوازن بين متطلّبات التقدم الاقتصادي والقدرة الاستيعابية للطبيعة.
- الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
رئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
8:2 دقيقه
TT
هل تتخلى مصر عن الفحم الحجري؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة