انتشر الوباء وبدأ البحث عن الدواء. تزايد عدد المصابين ومعه الوفيات وفي كل القارات. أُقفلت المصانع والمصالح الحكومية والتجارية وعُلقت رحلات الطيران وأُغلقت الحدود. لم يفرّق الفيروس الوبائي بين العامة والخاصة من الناس، بل شمل أيضاً المشاهير، من ساسة وفنانين ورياضيين. بمعنى آخر، أصاب وباء «كورونا» العالم بمقتل في الحياة الاجتماعية، وكذلك مفاصل الاقتصاد والسياسة في جميع الدول بلا استثناء.
بدأت تتكاثر الأسئلة: من أين أتى هذا الوباء؟ مَن المسؤول عنه؟ هل يحمل في طياته رائحة المؤامرة؟ هل نحن أمام حرب بيولوجية؟ هل هو نتيجة لأنماط المعيشة هنا أو هناك؟ هل العالم متّحد بالقدر الكافي لمواجهته؟ متى سيتم القضاء عليه؟ ما تداعياته المستقبلية على النظام العالمي؟ وهناك الكثير من الأسئلة التي تطرح نفسها في هذا السياق حول ظهور هذا الوباء وانتشاره وطرق علاجه وتبعاته كافة.
قد يبدو الحديث عن العالم في مرحلة ما بعد وباء «كورونا» مبكراً، كون الحكومات لا تزال تبحث عن إيجاد العقار الطبي المناسب، إلا أن البعض رأى ضرورة التفكير في تداعيات ما بعد «كورونا». يبدو أن هذا المنحى أتى، في تقديرنا الشخصي، نتيجة القناعة بأن اللقاح سيتم في النهاية التوصل إليه، وسيتم التغلب على هذا الوباء. وفي هذا السياق، أجرت المجلة الأميركية الشهيرة «السياسة الخارجية» Foreign Policy استطلاعاً لآراء اثني عشر من المفكرين البارزين في العالم حول ما يمكن أن يكون عليه النظام العالمي بعد وباء «كورونا». وقد ركز هؤلاء المفكرون على التداعيات المحتملة لهذا الوباء على مستقبل النظام الدولي والعلاقات داخل الدول وبينها، وما إذا كان سينتج عن ذلك تغيرات جوهرية في طبيعة النظام الدولي وأنماط التفاعل بين وحداته. ويمكن تلخيص أهم الأفكار التي خلص إليها المفكرون في النقاط الخمس التالية:
أولاً - إن العولمة والاعتماد المتبادل اللذين سادا العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة جعلا عالمنا اليوم أكثر انكشافاً، وأكثر عرضة للضرر من مثل هذه الأمور، لذلك ستحرص الدول على أن يكون لديها قدرة أكبر على الضبط والحماية ضد أي أحداث مستقبلية، وإنْ بقيت الحاجة إلى الحفاظ على التعاون الدولي، لكن بشكل منضبط. هذا يعني أن قوى العولمة ستضعف بشكل واضح، وستكون الدول أكثر حرصاً على تحصين نفسها ومواطنيها ضد المتغيرات المستقبلية في المجالات كافة.
ثانياً - سوف يعزز انتشار هذا الوباء من النزعة القائمة نحو الأحادية بدلاً من تعددية الأطراف في النظام الدولي، وعلى وجه التحديد النزعة القومية لدى الحكومات، وسعي الأخيرة لتعزيز صلاحياتها وقدراتها لمواجهة أي أخطار مشابهة في المستقبل، وذلك من أجل حماية مواطنيها. ومهما يكن هذا المنحى غير جديد في ظل تنامي النزعة القومية والشعبوية مؤخراً، فإن ذلك النمط السياسي سوف يصبح أكثر انتشاراً، بل إن الشعوب ستكون أكثر تقبلاً له من السابق.
ثالثاً - سيشكل انتشار الوباء اختباراً لنوعية القيادات السياسية حول العالم، وبخاصة لجهة طبيعة النظام السياسي، ومدى نجاحه في التعامل مع تفشي الوباء وقدرته على اتخاذ الإجراءات الضرورية لاحتوائه. كما أن نجاح دولة أو أخرى في هذا المضمار سيوظَّف لصالح النظام الحاكم وما إذا كان النظام ديمقراطياً أم غير ذلك.
رابعاً - من غير المستبعد أن نلحظ مستقبلاً تحول مركز القوة والنفوذ من الغرب إلى الشرق نظير الإجراءات الفعالة والإمكانيات التي أبدتها بعض القوى الآسيوية في تعاملها مع انتشار الوباء، مثل الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة على سبيل المثال؛ وذلك في الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة وأوروبا في حيرة من أمرها رغم المتسع من الوقت الذي كان لديهما للتعامل معه بفاعلية.
خامساً - سيسرّع الوباء من التحول الاقتصادي الحاصل في العالم، بعيداً عن مركزية النظام الأميركي في النظام الدولي لصالح الصين. ففي ظل عدم الحماس الذي تبديه الإدارة الأميركية لحرية التجارة والتعاون الدولي، تبدو الصين أكثر انفتاحاً في هذا المجال وأكثر التزاماً، بل وأكثر حرصاً على تحقيق الانتشار الثقافي والاقتصادي. كما سيقوض انتشار الوباء دعائم النظام الاقتصادي العالمي، خصوصاً فيما يتعلق بقطاع الإنتاج، حيث ستسعى الشركات الكبرى لإعادة النظر في أساليب الإنتاج وطرقه بما يحمي مصالحها ويحمي حقوق موظفيها.
الخلاصة أن هذا الوباء زاد من عدم اليقين الذي يصبغ الوضع الدولي. كما أن الأوبئة والمحن والتحديات أياً كان نوعها، لا تفرّق بين القوي والضعيف، ولا بين الدول المتقدمة والدول النامية، ولا بين الشرق والغرب. لكن قطعاً، إن قدرة الدول على التعامل معها تختلف من دولة إلى أخرى. هذا يدعونا للقول بأن هناك الكثير من الدول والمجتمعات التي تدخل في خانة الضحايا لمثل هذه التطورات، نظراً إلى محدودية قدراتها من ناحية، ولما يتركه انتشار هذا الوباء وإجراءات احتوائه من آثار بليغة على اقتصادها من ناحية أخرى. هنا تبدو أهمية التعاون الدولي، ليس فقط لاحتواء الوباء، ولكن للتغلب على تبعاته، خصوصاً في ظل الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد العالمي في السنوات القليلة الماضية. ولعل المنابر الدولية، مثل مجموعة العشرين (G20) التي ترأسها هذا العام السعودية، وكذلك مجموعة السبع (G7)، والمنظمات الدولية والإقليمية ذات العلاقة، هي القنوات الأنسب لتعزيز الجهود الجماعية المستقبلية للتغلب على تداعيات هذا الوباء وما يخلفه على الاقتصاد العالمي من آثار كارثية، ولضبط إيقاع التغيرات البنيوية التي يشهدها النظام الدولي.
- الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية للشؤون السياسية
7:44 دقيقة
TT
العالم ما بعد «كورونا»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة