عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«إسلاموفوبيا» صاحب «الإسلاموفوبيا»

يعرف القراء رواية «فرانكنشتاين»، فلم تخلُ صناعة فيلم حول العالم من إنتاج عينة منها بتفسيرات مختلفة. الرواية بقلم الأديبة الإنجليزية ماري ولستونكرافت - شيللي (1797 - 1851) زوجة شاعر المدرسة الرومانسية الإنجليزي بيرسي بيش شيللي (1792 - 1822).
فيكتور فرانكنشتاين هو الطبيب الأرستقراطي، بطل الرواية، عندما نشرت بعنوان «بروميثيوس الحديث» في 1818.
يمكن تشبيه قصة «بروميثيوس» في الميثولوجيا الإغريقية بعصيان آدم، وطرده من الجنة، في الديانات الإبراهيمية، أو تمرد الإنسان على قوانين والبيئة والطبيعة المألوفة في معظم المعتقدات الإنسانية.
الرواية تُقرأ على عدة مستويات، من الظاهر، إلى عمق اللاوعي الجماعي الممتد لآلاف السنين، حسب تعدد تفسيرات الأعمال المسرحية والتلفزيونية والسينمائية، وإسقاطاتها على البيئة السياسية والاجتماعية المعاصرة. ماري شيللي كانت في 1816 تساعد صديق زوجها الشاعر الرومانسي جورج بيرون (1788 - 1824) لنسخ قصيدته «بروميثيوس» التي حولها بيرسي شيري للدراما الشعرية «بروميثيوس يفك أغلاله» في 1820، ولـ«بروميثوسها» أي ماري شيللي فلسفة مباشرة: اختراعات ابتُكرت بِنيّة طيبة لمساعدة الإنسان، قد تصبح خارج السيطرة، وربما تدمر صانعها.
تذكّرت شيللي عندما قرأت شكوى في مقالة في «التايمز» للكاتب والمعلق ابن المهاجرين السود تريفور فيلليبس، الرئيس السابق لمفوضية المساواة العنصرية وحقوق الإنسان، ومن المدافعين عن الحريات.
فيلليبس الذي ابتكر تعبير «الإسلاموفوبيا» في عام 1997 كدفاع عن المسلمين، فصل في مطلع الأسبوع من حزب العمال بتهمة... «الإسلاموفوبيا»!
الأمر أخطر من نكتة؛ ففيلليبس، حسب مقالته ومقابلاته التلفزيونية، ممنوع بإنذار قانوني من السكرتارية العامة لحزب العمال؛ أكبر أحزاب بريطانيا عدداً، من الإفصاح عن تفاصيل إبقائه مفصولاً رهن التحقيق، لكنه متهم باستخدام «إسلاموفوبي» لاستطلاع للرأي بشأن رد فعل مسلمي بريطانيا تجاه العدوان الإرهابي على المجلة الفكاهية الفرنسية «تشارلي إبدو». الإحصائية تشير إلى أنهم كانوا أكثر تبريراً للاعتداء من غيرهم من المجموعات الأخرى، وفسرها فيلليبس بأنهم «مختلفون»؛ كلمة سلبية في قاموس البعض. لكنه في مقابلاته الإذاعية قال إن المسلمين مختلفون، حسب ثقافتهم وعاداتهم، ومدى تدينهم كأفراد، مثلهم مثل الكاثوليك، واليهود، والهندوس، والبوذيين، لكن هذا لا يعطيهم الحق في أن يكونوا دولة مستقلة داخل الأمة البريطانية. وأضاف أنه في المجتمع متعدد الثقافات الدينية تختلف كل مجموعة عن الأخرى، لأن المتدينين بينهم يعيشون حياتهم وممارساتهم اليومية، حسب تعاليم دينهم. حقيقة لا يختلف عليها اثنان، لكن المشكلة اليوم في بريطانيا أن هناك تياراً يريد أن يحتكر لنفسه تعريف ما هو مقبول أخلاقياً في المجتمع، ويعتبر من يحاول أن يستقل باجتهاداته فلسفياً وذهنياً خارجاً عن الجماعة، أي «كافر ثقافياً». هل يري القراء التشابه بين ما يحدث في أعرق الديمقراطيات وبلد الدفاع عن الحريات، وبين المتشددين في بلدان المسلمين وتكفيرهم لمن يخالفهم الرأي؟
فيلليبس كان ألقى كلمة قبل أسبوعين في مناسبة إطلاق منظمة للدفاع عن حرية الرأي والصحافة، (كاتب السطور من المؤسسين)، وهي «رابطة حرية التعبير»، التي يستمر اليسار البريطاني في مهاجمتها عبر أهم منابرهم المكتوبة صحيفة «الغارديان»، المستمرة يومياً منذ إعلانها. الرابطة تحذر من رقابة قُصد بها إخراس أصحاب الرأي الحر من كتّاب ومعلقين، بترهيبهم بتهم يعاقب عليها القانون، أو تؤدي إلى فصلهم من أعمالهم، أو تهيج الرأي العام ضدهم، ما يعني قطع أرزاق المثقفين. يوجهون إليهم تهماً من نوع الكفر، أو ازدراء الأديان، أو العنصرية، أو «الإسلاموفوبيا»، أو «الميسونجية» (كراهية المرأة). هذا الابتزاز بلغ حد أن التهم (المنتقاة خارج السياق من أقوال المعارضين) ليست في مجال عمل الشخص نفسه، بل إذا كانت في تغريدة أو رأي على وسائل التواصل الاجتماعي، أو نكتة على حفلة عشاء تصادف أن يوجد فيها صحافي من التيار الذي يريد التحكم في الرأي العام.
فيلليبس دخل في صدام مع «اليسار الكوربيني» في حزب العمال. جيريمي كوربين الزعيم الذي فرضه اليسار المتطرف على الحزب في 2016 متهم من أغلبية تيار الوسط المعتدل الذي يمثله مثقفون كفيلليبس بأنه وراء خسارة «العمال» لمناطق الطبقة العاملة. ويتزعم المدافعين عن فيلليبس أشهر نواب مجلس العموم المسلمين، نائب مدينة بيرمنغهام، خالد محمود، الذي يتهم «الكوربينيين» بمحاولة التخلص من المعتدلين والمثقفين الحقيقيين.
اليسار والراديكاليون الإسلاميون من شبه القارة الهندية (وهم لا يعرفون العربية ومعلوماتهم (سكندهاند)، أي فسرها لهم أصحاب المصالح الخاصة) يريدون تقليد اليهود الذين توصلوا إلى نوع من الاتفاق العالمي على تعريف معاداة السامية. يريد المتشددون احتكار تعريف «الإسلاموفوبيا»، ويدرجونها في خانة التفرقة العنصرية. فيلليبس كصاحب حق المؤلف «للإسلاموفوبيا» جادل بأن المسلمين ليسوا مجموعة عرقية كالهنود أو الفلبينيين أو اليابانيين مثلاً، بل ينتمون لعرقيات مختلفة. فمسلمو أوروبا من البيض القوقازيين، وهناك مسلمون شراكسة وأفارقة وأتراك وآسيويون وعرب، والمشترك هو دينهم.
والمسألة تتجاوز محاولة احتكار اليسار لتعريفات تعطيهم التفوق الأخلاقي على الآخرين، إلى انزعاجهم من انضمام مثقف في وزن فيلليبس إلى رابطة الدفاع عن حرية التعبير، التي يريدون تقويضها.
إدانتهم لفيلليبس لتحليليه استطلاع رأي المسلمين عن هجوم 2015 الإرهابي على المجلة الفرنسية كانت كالقول «لا تقربوا الصلاة».
هجوم 2015 الذي تبنته «القاعدة»، بررته باتهام المجلة بنشر رسوم في 2011 فسرها المتطرفون بإهانة الإسلام. كيف وصلت خلفية الهجوم إلى مسلمي بريطانيا، الذين لا يعرف معظمهم اللغة الفرنسية، ناهيك عن مجلة فرنسية محدودة التوزيع في لندن؟
مراسلة «بي بي سي» توجهت لباكستاني يخدم في مطعم للكاري في مقاطعة باركشير، يتحدث الإنجليزية بصعوبة. لم تتبع حضرة المراسلة أساسيات المقابلة الصحافية بترتيب الأسئلة التمهيدية: «هل تعرف اللغة الفرنسية؟ هل تقرأ مجلة (تشارلي إبدو)؟»، لتتبعها أسئلة أخرى، حسب إجابته بنعم أم لا. لكنها بادرته بلا مقدمات: «هل يجوز نشر رسوم مهينة للإسلام ورسوله؟ وما هو عقاب هؤلاء؟».
وماذا توقعت خريجة أرقى الجامعات أن يأتي رد قروي بسيط من ريف باكستان تعليمه دون تحفيظ القرآن (بالعربية التي لا يفقهها)، بل عامل وسط مهاجرين أميين من قريته؟
نموذج لمساهمة المثقفين في تنوير مسلمي بريطانيا بخلفية حادث «تشارلي إبدو»، ما جعل رد فعلهم «مختلفاً» عن بقية المجموعات الأخرى، ففسره الإنجليز البيض من غير المسلمين بأنه دليل «إسلاموفوبيا» فيلليبس ابن المهاجر الأسود!