رزان خليفة المبارك
الأمين العام لهيئة البيئة - أبوظبي
TT

المدينة في قلب الحل

وفقا لتقرير الكوكب الحي، نحن نستهلك ما مقداره مرة ونصف أكثر مما ينتجه كوكب الأرض، فلو كانت الأرض بنكا، فإننا الآن نصرف كل مدّخراته والاحتياطي أيضا من دون أي ضمانة لاسترجاع ما نصرفه أو خطة إنقاذ تعفينا من الإفلاس. العالم اليوم يواجه عددا من القضايا البيئية العالقة التي يجب معالجتها واتخاذ ‏إجراءات صارمة إزاء أي مخالفات للحد منها لضمان استدامة النمو السكاني. وتشير التقديرات إلى أن عدد ‏سكان العالم سيصل إلى 9.5 مليار نسمة بحلول عام 2050. وإذا استمرت نفس معدلات الاستهلاك ‏فسنحتاج إلى ما يعادل 3 كواكب للحفاظ على نمط معيشتنا الحالية.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، يعيش 54 في المائة من سكان العالم في المناطق الحضرية والمدن، في حين كانت تلك النسبة 34 في المائة فقط في عام 1960، ومن المتوقع أن تزداد هذه النسبة إلى 66 في المائة بعد نحو 35 عاما. وتساهم المدن بنسبة 60 إلى 80 في المائة من استهلاك الطاقة، و75 في المائة من انبعاثات الكربون، وهذا يمثل تحديا كبيرا في أي سياسة بيئية. يقول جون ويلموث، مدير شعبة السكان بإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة: «أصبحت إدارة المناطق الحضرية واحدة من أهم تحديات التنمية في القرن الحادي والعشرين. إن نجاحنا أو فشلنا في بناء مدن مستدامة سيشكل عاملا أساسيا في نجاح أجندة التنمية لما بعد عام 2015».
رغم المساهمة الكبيرة للمدن والمناطق الحضرية في نسب التلوث، فإننا لو تمعّنا في المعطيات سنرى أن «المدينة» جزء مهم من الحل، فكثافة عدد السكان في المدن، يتيح الفرصة لتحقيق الكفاءة وابتكار تقنيات قابلة للتطبيق تساهم في خفض استهلاك الطاقة والموارد الطبيعية.
بالنسبة لنا في أبوظبي، أدركنا أن تحقيق مدينة مستدامة وملائمة للمستقبل يبدأ برؤية واضحة. واعتمادا على البيانات السليمة، ودراسة المتغيرات، واستشراف التوجهات المسقبلية، قمنا بتطوير رؤية أبوظبي الاقتصادية 2030، والرؤية البيئية 2030 التي تضمن التخطيط لنمو اقتصادي، ولكن بطريقة مستدامة بيئيا. وتساهم هذه الرؤى، في تخطيط مدننا، كما تمكّننا من تحديد الميزانيات والجداول الزمنية لمشاريع البنى التحتية من أجل نمو مستدام لمدننا.
كما تلعب رؤية 2030 دورا مهما في التخطيط ووضع السياسات على مستوى المدينة بطريقة عملية وقابلة للتنفيذ، فعلى سبيل المثال، توجد بعض الموائل الأكثر تنوعا لدينا في المنطقة الساحلية؛ حيث الجزر وغابات القرم وشعاب البحر التي تؤمن أماكن لتكاثر الطيور وسلاحف البحر، على مقربة من المدينة؛ مما يتيح للسكان الوصول إلى الطبيعة بسهولة والتمتع بها. ولهذه المناطق فوائد اقتصادية تتمثّل في تنظيف مياه الساحل، وتوفير حاضنات لتكاثر الأسماك، وحماية الشاطئ من ارتفاع مياه البحر. جمال هذه المناطق وسهولة الوصول إليها جعلها في خطط مطوري المشاريع، لذلك، من خلال عملية التخطيط، تم إعلان معظم هذه المناطق محميات طبيعية، وتساعد تلك المحميات على دعم العلاقة المتوازنة بين الإنسان ومحيطه الحيوي، كما تعد إحدى الوسائل المهمة، لتحقيق التوازن البيئي والحفاظ على البيئة، بما تحتويه من نباتات وحيوانات سواء على اليابسة أو في البحار، ومنع استنزاف وتدهور الموارد الطبيعية، بما يضمن بقاء وحفظ التنوع البيولوجي اللازم لاستمرار الحياة.
لا نغفل الدور الحيوي لتحسين كفاءة استهلاك الموارد من أجل الحفاظ عليها، فمثلا دولة الإمارات من أعلى الدول استهلاكا للطاقة والمياه للفرد، ومن بين أسباب ارتفاع معدلات الاستهلاك، طبيعة المناخ الحار والحاجة إلى تكييف المباني على مدار العام، إضافة إلى ري المتنزهات والمساحات الخضراء لجعل المدن أكثر قابلية للعيش. وللتخفيف من تأثير معدلات الاستهلاك المرتفعة، كان لا بد من تحسين مستوى الكفاءة في المباني عن طريق نظام تصنيف للمباني يدعى «استدامة»، بالإضافة إلى توظيف تقنيات حديثة وعملية لتخفض من كميات المياه المستخدمة في ري الحدائق والمساحات الخضراء وتستفيد من المياه المعاد تدويرها. بالإضافة إلى هذا، نعمل على تنويع مصادر الطاقة لدينا، فبحلول عام 2020، نهدف أن تكون نسبة 30 في المائة من الطاقة عن طريق مصادر نظيفة، ومنخفضة الكربون مثل الطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة.
تعد عوادم السيارات من أهم مصادر الانبعاثات الكربونية؛ لذا، من الضروري اعتماد وسائل مواصلات مستدامة، كإنشاء قطارات تربط المدن بعضها بالبعض. وفي المدن الداخلية، تشجيع إنشاء ممرات خاصة بالدراجات الهوائية؛ مما يساهم في سهولة الحركة ويشكل بيئة آمنة للعائلات لممارسة الرياضة في الهواء الطلق وفي قلب المدينة. يقول إنريكي بينالوسا، عمدة العاصمة الكولومبية بوغوتا السابق: «الدولة المتقدمة ليست التي يملك الفقير فيها سيارة، ولكن هي التي يستخدم الغني فيها المواصلات العامة»، أنا أؤمن بهذه الرؤية وأنه يجب علينا المساهمة في تحقيقها من أجل أن نجعل مدننا نظيفة، وقابلة للعيش، ومستدامة، يجب أن نتكاتف جميعا لتحويل هذه العبارة إلى واقع، وهذا تحد كبير لنا جميعا في ظل ثقافة مرتبطة بالسيارة.
علينا أن نبتكر، وألا نبحث عن أفضل الممارسات المستخدمة اليوم، وإنما أفضل الممارسات التي تصلح للمستقبل، أن ننجح في تحقيق التوازن ما بين التنمية والحفاظ على البيئة، له أهمية كبرى ليس للحفاظ على البيئة وصون تراثنا الطبيعي فحسب، وإنما لتعزيز تنافسيتنا الاقتصادية.
وأخيرا، لا يمكننا أن ننسى العنصر الأهم في كل هذه الحلول، ألا وهو الإنسان، فإن كانت المدينة هي قلب الحل، فأفراد المجتمع هم شرايينه، فهم من يعيشون ويعملون في تلك المدن، وهم من يجعلون مدننا «تنبض» بالحياة. من الضروري أن تنخرط المجتمعات المحلية بجميع فئاتها وتشارك مشاركة عملية في الحوار البيئي لبناء مدن ذكية ومستدامة لأجيال المستقبل.
* الأمين العام لهيئة البيئة - أبوظبي