جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

ترمب في الهند بعد فوات وقت الندم

تطرح زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لناريندرا مودي رئيس وزراء الهند عناوين قضايا عديدة للنقاش. أول ما يلفت نظر المتابع المدقق، هو أن الشرق الأوسط غير مهتم بالزيارة وتوابعها، على عكس ما كان عليه الحال في عقود سابقة. في تلك العقود كان الشرق الأوسط وبخاصة توقعات الرأي فيه أهم مما هو عليه الآن، وكان العرب أمة أقل انغماساً في ممارسة الفرقة والانفراط، وكانت الولايات المتحدة أقوى نفوذاً في العالم وانشغالاً بمصالحها القومية في الشرق الأوسط، وكانت الهند محسوبة حليفاً في معسكر يخاصم الغرب، وطرفاً غير فاعل في إقليم آسيوي صاعد ببطء، وتدرج في الأهمية الجيوسياسية والجيواقتصادية ضمن نظام دولي آخذ في التغير.
تغيرت توازنات وقيم. وقتها ساد بيننا الظن أننا تعودنا عليها، أو أن بعضها ثابت لن يتغير. لم يخطر ببالنا أن رئيساً سوف يأتي لأميركا يثير بتصرفاته السياسية والشخصية شكوك كثير من حكام العالم، في صدق إيمانه بنص القسم الذي أقسم فيه على واجب حماية الدستور الأميركي، وقيم العدالة والديمقراطية التي هي «سبب وجود» الجمهورية الأميركية. اعتقدنا بكل النيات البريئة أنهما خُلقتا الواحدة للأخرى، الديمقراطية والولايات المتحدة، حتى جاء الرئيس ترمب ليفند الأسس التي قامت عليها هذه البراءة. تشوهت في عهده صورة الديمقراطية من ناحية، وصورة الولايات المتحدة من ناحية ثانية، وصورة النظام الدولي من ناحية ثالثة، وهو النظام الذي شيدته واشنطن ومعها الغرب في نهاية الحرب العالمية الثانية.
كذلك لم يأتِ ببالنا - وأقصد هؤلاء الكثيرين الذين إما عاشوا في الهند وإما درسوها وانتهوا مقتنعين بما تفعل نخبتها السياسية من حكام ومعارضين، وبما تفعل وتمارس نخبتها المثقفة؛ بل والمتعلمة، من فصل تام بين الدين والدولة - لم يأت ببالنا أن يوماً قريباً سيأتي نرى فيه صعود حركة تمثل أقلية هندوسية شديدة التطرف والتعصب الطائفي، لتشكل حزب أغلبية يصل إلى مقاعد الحكم في ولاية صغيرة، ومنها إلى مقاعد الحكم في نيودلهي، عاصمة «أكبر ديمقراطية في العالم».
لعله عنوان لإحدى أهم القضايا التي طرحتها زيارة الرئيس ترمب للسيد ناريندرا مودي، ألهذا الحد نجح النموذج الترمبي في تفكيك إحدى أهم قيم النظام السياسي في الهند؟ أم أن مودي وأمثاله في عالم اليوم ليسوا أكثر من ظاهرة متكررة، ظاهرة «سقوط الغرب».
سمعتها في الصين وفي الهند ودول عديدة في الشرق الأوسط، سمعت من يردد أن الماركسية اللينينية مثلها مثل الديمقراطية الليبرالية، هما من ثمار الحضارة الغربية. كان ماو تسي تونغ من أوائل من رددوها في الصين، واستطاعوا المزج بحرفية رائعة بين المكون الرئيس في آيديولوجية الغرب وما نسجه الشرق من تقاليد وثقافة وعقائد. لم يرفضوا كلية الغرب وثقافته ومكونات آيديولوجياته، ولم يقبلوا الشرق كما هو، أو تبنوا ما تراكم من ثمار ثقافاته وعقائده من دون مناقشة. تاريخ نشأة الماوية والاشتراكية الصينية حافل بتجارب وعمليات نقد ذاتي ومراجعات، أكسبت السياسة في الصين وجنوب شرقي آسيا، وفي الهند خاصة، وبعض أنحاء أميركا اللاتينية نكهتها الآسيوية. اليوم يستطيع أي نظام توسعي المزاج والطموح أن يسرب تقاليده وفلسفته الشرقية، الآسيوية، إلى شعوب أخرى، من خلال مشروعاته الاستثمارية ومساعداته الإعمارية. هكذا فعلت القوى العظمى الغربية على امتداد هيمنة الغرب على أقاليم في الشرق والجنوب. وهذا هو ما تفعله الصين، وما سوف تفعله الهند عندما تسمح لها ظروفها وظروف آسيا وعلاقاتها بالصين، بأن تنهض وتبدأ رحلة الصعود.
في رأيي، لا أظن، على كل حال، أن الصحوة الهندوسية بلغت الحد لذي يسمح لمفكريها وأنبيائها وقادتها السياسيين بصياغة نظرية متكاملة بؤرتها العقيدة الهندوسية، وتراث وممارسات المراحل العملاقة في التاريخ السياسي المبكر للهندوسية، أي في المراحل التي سبقت الغزو الإسلامي لشبه جزيرة الهند.
لا يوجد شك في أن تكون زيارة الرئيس ترمب قد خدمت الجانب الأشد تطرفاً في الحركة التي تدعم السيد مودي، وَيضع أسسها الآيديولوجية أقرب مستشاريه وأقواهم نفوذاً في الحركة. كان خطأ لا يغتفر من جانب الرئيس الأميركي الإشارة إلى الإرهاب الإسلامي، بينما كانت دلهي القديمة غارقة في دماء القتلى من المسلمين، وأكثرهم عاشوا في صفاء مع جيرانهم من الهندوس قبل أن يأتي مودي إلى الحكم، ويقرر ترمب زيارة الهند، فيما يشبه ترتيباً متعمداً لدعم السيد مودي في حملة التصعيد ضد الهنود من أصل إسلامي من جانب، وضد الوجود الصيني في آسيا الوسطى وجنوب شرقي القارة من جانب آخر.
بعضنا يذكر المراحل التي تطورت من خلالها العلاقات بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية. ألخصها في السطور التالية، فقد تنفع الذكرى في فهم طبيعة الوضع الراهن في علاقة أميركا بالهند.
أذكر مثلاً أن العلاقات الأميركية بدأت بخصومة في اللحظة التي أعلن فيها تحرير الصين واستقلالها، وعلى أثر الاستقلال قرر الرئيس ماو دخول قوات جيش التحرير الصيني كوريا دفاعاً عن كوريا الشمالية ضد الغزو الأميركي. كان الذائع وقتذاك أن دخول الصينيين الحرب أنقذ بلادهم من تمدد الغزو الأميركي إلى بكين، وإسقاط الحكم الشيوعي.
استمرت علاقة الخصومة إلى أن قرر الرئيس نيكسون ومستشاره هنري كيسنجر فتح صفحة جديدة مع بكين. كان الهدف مزدوجاً، رغبة كيسنجر في التخلص من ورطة فيتنام بخروج آمن وغير مهين لأميركا من هناك. أما الوجه الآخر فكان إقامة نوع من الائتلاف، بحكم الواقع، مع الصين في مواجهة الاتحاد السوفياتي، منتهزاً غضب موسكو من النزعة الاستقلالية والمتعالية أحياناً لدى الرئيس ماو على التطبيق الروسي للماركسية اللينينية، وعلى الانتقادات الروسية للاجتهادات الآيديولوجية في الصين.
ثم جاءت المرحلة الثالثة، بدأت عندما انتبهت الولايات المتحدة إلى ضرورة دمج الصين في النظام الدولي، تعويضاً عن سنوات الحصار الذي فرضته عليها خلال المرحلتين الأولى والثانية. أسفرت محاولات الدمج عن مصلحة هائلة للصين لتستفيد من العولمة، في الوقت نفسه حصلت الولايات المتحدة على منافع ومآزق كبرى من التعاون الاقتصادي مع الصين، أهمها نشأة حالة من الاعتماد المتبادل بين البلدين، هو الاعتماد الذي قام بضخ أموال ضخمة في شرايين أميركية تصلب بعضها، ولكنه في الوقت نفسه أضعف مركز أميركا بالنسبة للصين، وكذلك بالنسبة لآسيا، وأضاف إضافة كبيرة وغير متوقعة إلى القوة الصينية في نظر «المعسكر الغربي»، دون أن تتحمل الصين تكلفة هذا الصعود على سلم توازنات القوة.
يوجد هناك من يعتقد أن واشنطن بتقاربها مع نيودلهي تسعى لاستعادة ما فقدته من نفوذ في آسيا، عندما سمحت للصين بالتمدد في آسيا والعالم. إن كانت الصين حققت أعلى سرعة صعود في تاريخ العلاقات بين الأمم، فلماذا لا تجرب أميركا إعادة التجربة مع الهند علَّها - وهي آسيوية مثل الصين - تحقق ما حققته الصين، فيقوم توازن جديد للقوة محل التوازن الناجم عن خطأ استراتيجي أميركي، خطأ سمح لدولة منافسة بالقفز بخطوات واسعة نحو القمة الدولية، خطأ كشف عن حال انحدار رهيب في القوة الأميركية، وخلل في داخل المعسكر الغربي، وربما شجع أنصار حملة «نهاية الغرب» على تكثيف نشاطهم، خطأ لا ينفع معه الندم.