هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

صورة الوجود الأميركي في الخارج

لدى الولايات المتحدة بصمة عسكرية عالمية لا مثيل لها، وأحد الجوانب الأكثر وضوحاً لتلك البصمة الشبكة العالمية من القواعد التي تملكها؛ فمن اليابان إلى المملكة المتحدة، تسمح المنشآت الخارجية الأميركية لواشنطن بتشكيل الأحداث على بُعد آلاف الأميال من الشواطئ الأميركية.
ولطالما جادل النقاد بأن فكرة نشر القوات في الخارج تخلق مشاعر معادية للولايات المتحدة، مما يجعل وجود واشنطن في جميع أنحاء العالم سامّاً ومؤذياً، ولكن هناك دراسة حديثة قلبت هذا النقد رأساً على عقب، حيث وجدت أن اتصال الأجانب بأعضاء الخدمة الأميركية يؤدي إلى وجهات نظر أكثر إيجابية عن الولايات المتحدة وجيشها، وقد تبيَّن أن القواعد الخارجية ليست فقط رمزاً للقوة الأميركية الصلبة، ولكنها أداة من أدوات القوة الناعمة الأميركية أيضاً.
وتلعب القواعد الخارجية دوراً محورياً في استراتيجية أميركا الكبرى الطموحة، حيث يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم قوتها العسكرية الحاسمة في المناطق الساخنة، مثل بحر الصين الجنوبي، وأوروبا الشرقية، والخليج العربي، وذلك لأن لديها قواعد مترامية الأطراف ومرافق لوجستية؛ إما في تلك المناطق أو في الطريق المؤدي إليها، فعلى سبيل المثال، كانت القواعد الجوية حاسمة في حرب «البنتاغون» ضد «تنظيم داعش» في العراق وسوريا، فضلاً عن أن هذه القواعد تُمكِّن الولايات المتحدة من الوجود في الخطوط الأمامية، وذلك من خلال تمركز الأفراد والطائرات المقاتلة والسفن البحرية وغيرهم من الأصول العسكرية بالقرب من الخطوط الأمامية للنزاعات الجيوسياسية، وهو الأمر الذي يعمل على طمأنة الحلفاء، وإبقاء الخصوم تحت المراقبة.
والعدد الدقيق للقواعد الخارجية للولايات المتحدة محل خلاف، حيث يقدر بعض المراقبين العدد الإجمالي بنحو 800 قاعدة، وذلك على الرغم من أن العديد منها عبارة عن منشآت صغيرة وغير مهمة نسبياً، لكن القواعد الرئيسية سمة بارزة للوجود العالمي لأميركا في دول، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والبحرين وألمانيا والمملكة المتحدة.
وبالنسبة لبعض النقاد، فإن هذه القواعد بمثابة رمز للسياسة الخارجية الإمبريالية والعسكرة المفرطة والمتعجرفة بالنسبة للسكان المحليين، وفي كثير من الأحيان يكون الوجود العسكري الأميركي مثيراً للجدل، ونادراً ما تحظى الاتفاقيات الخاصة بوضع القوات، التي تمنح الموظفين الأميركيين درجة من الحصانة من المقاضاة المحلية، بشعبية كبيرة، فقد أثارت عمليات الاغتصاب والقتل والاعتداءات التي ارتكبها أعضاء الخدمة أو المقاولون الأميركيون احتجاجات مناهضة للولايات المتحدة، في كوريا الجنوبية واليابان ودول أخرى، وفي حادثة سيئة السمعة، قام 3 من أفراد الخدمة بخطف واغتصاب فتاة في أوكيناوان تبلغ من العمر 12 عاماً في 1995، مما تسبب في أزمة في العلاقات الأميركية - اليابانية، وقد وضع الصحافي تشالمرز جونسون مثل هذه الأحداث في الاعتبار، عندما جادل قبل عقدين من الزمن بأن الوجود العسكري الأميركي في الخارج كان محركاً قوياً لـ«رد الفعل» المناهض للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، ودعا إلى سياسة خارجية أكثر تقييداً.
ومع ذلك، فإن التركيز على هذه الأمور لا يكشف سوى جزء واحد فقط من القصة، وهو ما كشفته دراسة جديدة قام بها 4 علماء في مجلة العلوم السياسية الأميركية، فبناء على دراسات استقصائية لـ14 ألف شخص في 14 دولة، فإن القواعد الأميركية لديها تأثير إيجابي على التصورات الأجنبية للولايات المتحدة، ومن بين 14 دولة شملها الاستطلاع، وكان هناك شعور سلبي عام تجاه القوات الأميركية في دولة واحدة فقط، وهي تركيا.
والسبب في ذلك بسيط نسبياً، وهو أن الألفة تولّد الفهم والقبول، وليس الاحتقار، فالتواصل الشخصي بين الموظفين الأميركيين ومواطني البلدان التي تستضيف القواعد يضفي الطابع الإنساني على الوجود الأميركي في الخارج، ويؤدي إلى تلاشي الصور النمطية السلبية عن الجيش الأميركي، المتمثلة في تصور أن أعضاء الخدمة جميعهم رجال أقوياء، ويلوحون بالعلم الأميركي ويتحدثون عن الحرية والديمقراطية، والأهم من ذلك أن القواعد الأميركية تعزز اقتصادات المنطقة من خلال توظيف السكان المحليين وضخ الأموال إلى الشركات المحلية، والنتيجة هي أن الاتصال بأفراد الولايات المتحدة لا يؤدي إلى تعزيز المواقف الإيجابية تجاه الجيش الأميركي فحسب، بل تجاه شعب الولايات المتحدة ككل.
ويُعدّ هذا الاستنتاج مهمّاً لسببين يتعلقان بالنقاش الأوسع حول مستقبل السياسة الخارجية للولايات المتحدة؛ أولهما أنه يحذرنا من توجيه الانتقادات للوجود العالمي لأميركا، فصحيح أن هناك كثيراً من الحالات التي أصبحت فيها بصمة أميركا العسكرية نقطة مضيئة في العلاقات مع البلد المضيف، لكن هذه الحالات هي مجرد استثناءات نادرة.
وثانيهما، أن مسألة القواعد تُعدّ محل تساؤلات في الحملة الرئاسية 2020، فهل ينبغي أن تكون الولايات المتحدة أقل حزماً في تعاملها مع العالم؟ لقد جادل مات دوس، كبير مستشاري السياسة الخارجية للمرشح الديمقراطي البارز، بيرني ساندرز، بأنه لا يمكن تحمل الوجود العسكري الأميركي في كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا، وهو أساس الوجود الأميركي في أوروبا ومنطقة المحيط الهادي، ولكن هذا غير صحيح على المستوى الاقتصادي، وذلك لأن هذه البلدان (وغيرها) تسدد مدفوعات لتعويض تكلفة نشر القوات الأميركية على أراضيها، ولأننا نعرف أن الوجود الأميركي والتحالفات العسكرية الأميركية تترجم إلى مزايا تجارية ومزايا اقتصادية أخرى لواشنطن، كما أنه ليس صحيحاً من الناحية السياسية أيضاً، وذلك لأن الأدلة تشير إلى أن القواعد الخارجية تساعد على تعزيز مكانة أميركا في الخارج.
ومن المتوقَّع أن يستمر النقاش حول ما إذا كان يجب التراجع بشكل كبير عن العالم أم لا، لكن فكرة أن الوجود الأميركي في الخارج يخلق أعداء أكثر من الأصدقاء قد باتت فكرة قديمة الآن.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»