طلال حيدر
TT

«كركلا» يستحضر الزمان ويجعل الحلم حقيقة

أُطفئت الأضواء، وفُتحت الستارة لتبدأ المفاجأة.
عرفتُ أنواعاً عديدة من المسرح: المسرح الغنائي الذي يدور فيه كل شيء في فلك المطرب، ويكون الرقص زخرفاً للغناء، وعرفتُ المسرح الراقص؛ حيث يعزف الراقصون بأجسادهم صوت الموسيقى، أو المسرح الكلاسيكي إذ يملأ الممثلون الخشبة ليؤدوا فكرة أبدعها الكاتب.
فُتحت الستارة، في مسرح المرايا، فإذا بي أشاهد مسرحية غنائية راقصة تختلف في مفهومها عن المسارح الثلاثة، تمثيلاً ورقصاً وغناءً، والمفارقة أنها تجمع عناصر المسارح ومضمونها كلها، ولكن لتعطيها معاني وأبعاداً مختلفة عن كل ما ألفناه في المسارح السابقة.
«جميل وبثينة»! أول ما يأخذك مشهدية ساحرة تبهر العين وتبهج الروح، أزياء تستحضر ذلك الزمان بفنها وألوانها وأشكالها... الألوان وحدها سجادة تُفرش ليسير عليها الزمان، والأزياء تجسد لكل شخصية مسرحية معناها، وتبرز دورها في مجرى الأحداث التي تعبر عن حب عذري لا يزال يتناقله الزمان إلى الآن.
تظهر المسرحية جلياً هاجس «كركلا» في إحياء التراث العربي، وإبراز عاداته وتقاليده، حتى أدواته التي باد معظمها.
نرى «بثينة» في حبها العذري شريفة، عفيفة، مذعنة بالرضا لما يريده الوالد الذي يمثل العادات العربية الأصيلة، ومفاهيم الشرق النبيل للقبائل العربية التي لا تقبل الضيم... ونرى «جميل»، الشاعر المبدع الذي تناقلت قصائده الأجيال على مرِّ الزمان، لا يسيء إلى الشَّرف والإباء، ويكظم الغيظ، ويكتم ما بنفسه، ولا يعبِّر عنه إلا شعراً، ويرضخ للمفاهيم القبلية العربية بهجرته إلى دمشق، ثم إلى مثواه الأخير في مصر، منشداً:
يهواكِ ما عشتُ الفؤادُ فإن أمتْ يتبعْ صداي صداكِ بينَ الأقبرِ
اختار «كركلا» لمسرحه الراقص في أرض العلا شاعراً من هذه الأرض، ملأ الدنيا وشغل الناس، عاش «جميل» في أرض العلا التي لا تزال حتى الآن أعجوبة من أعاجيب الدنيا، فلم يفت «كركلا» - وهو الذي يمزج بين الشرق والغرب، بين التراث العربي وأحدث التقنيات الغربية المعاصرة - أن يبرز هذه الأرض، بأسلوبه التقني الخاص، على شاشات مسرحه، لنشعر كأننا في كوكب آخر، حتى لنكاد نسمع الريح تسف الرمال، لترسم أشكالاً تكوينية عجيبة غريبة، تحسبها كائنات جمدها الزمان. وهكذا يكون «كركلا» قد عرَّفنا على «جميل» في زمانه ومكانه، وتعرفنا إلى «جميل» الشاعر، وأدركنا أبعاداً في قصائده لم تكن جلية للعيان، وعرَّفنا على «بثينة» وهي تنبض بالحياة بعد أن كانت طي الكتب؛ حيث خبَّر عنها «جميل» ولم تبح عن نفسه، تحدث عنها كيف سكنت روحه وشعره، ولم تُحدث عن لواعج نفسها.
على مسرح «كركلا»، رأيت «بثينة» وعرفتها كيف تعبِّر عن مكامن نفسها، وكيف تحاور أهلها وأترابها، وكيف يسمو بها الشرف لملاقاة مصيرها وقدرها. أصبحت «بثينة» تخبر بعد أن كانت خبراً.
أنا الشاعر، أدَّعي أنني تعرفت اليوم - وأنا أخرج من مسرح المرايا في أرض العلا - على شاعر، والتقيت به ساعتين طيلة عمل «كركلا» الإبداعي، بعد أن كنت قد عرفته حبراً على ورق، ورأيت «بثينة» التي كانت خبراً يروى، وأصبحت هي التي تروي حكايتها الخالدة. وقال الرقص قصصاً لم يقلها الغناء ولا الحوار الغنائي، تارة شارحاً الموقف، أو معلقاً عليه، أو مثيراً التساؤل عن الآتي من الأحداث.
أمعنتُ النظر في الراقصات والراقصين، فإذا هم يتكلمون بصمت أجسادهم لغة تبرز المعاني، لتصبح أساساً في البناء الدرامي، لإضافة تزينية للمعنى. الراقصون - عند «كركلا» - يحاورون «جميل» بالرقص، يعبرون عن ألمه بأن والدها قضاها لغيره. كما تمسك الراقصات بأهداب «بثينة»، لتبارك ما رأيت فيما رأيت رقصاً، يقول كلاماً ليس بحاجة إلى اللغة قبل هذه الليلة.
قرأت شعر «جميل» وأنا يافع أيام الدراسة، وما استطعت أن أتخيله كما شاهدته الليلة على مسرح «كركلا». فهمت قصائده وتعمَّقت بها؛ لكنِّي الليلة سمعتها من «جميل» كأنني كنت معه ساعة أنشدها، وكأنني أسمعها للمرة الأولى.
وما أدهشني حتى الثمالة أنني رأيت كيف كانت تسمعها «بثينة»، ويذهب بها الشعر إلى فضاء يسكنه الليل، ويضيئه قمر العلا للعشق العذري.