خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

زوروني كل سنة مرة

لهذه الأغنية الشهيرة التي غنتها فيروز وذاعت بها عموم العالم العربي، تاريخ طويل يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. سمعت قصتها من المطربة والموسيقية الفلسطينية ريم كيلاني، الباحثة في فولكلور الموسيقى العربية. التقيت بها في كنيسة سان اثلبرغر في لندن. حدثتني فقالت إن هذه الأغنية لا تعود لـ«الأخوان» الرحباني ولا لفيروز ولا لسيد درويش، وإنما تعود لمطرب عراقي من أهل الموصل، المركز التاريخي للطرب العربي. وكان اسمه الملا عثمان الموصلي. أحبه الناس لصوته الرخيم وأدائه الرائع للمقامات والألحان.
أدرك إمكاناته الفنية فرحل إلى إسطنبول حيث راح يغني في المقاهي والقصور. سمع به السلطان عبد الحميد فاستدعاه واستمع له وأعجب بغنائه فضمه إلى الحاشية السلطانية. راح يغني له ولحريم السلطان. وكان الملا عثمان قد فقد بصره في طفولته بمدينة الموصل، أم الربيعين.
كان الملا عثمان الموصلي متصوفاً فعز عليه أن يقضي حياته في الغناء لحريم السلطان وحاشيته. فرحل من إسطنبول إلى مدينة حلب، المركز المعروف للصوفية. انضم إليهم. وفيما كان يؤدي واجبه، دخل في حلم رأى فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يلومه على تنقله في سائر الديار باستثناء الحرم الشريف وقبر النبي. فعقد العزم على السفر لديار الله وزيارة القبر. عاد إلى حلب وهناك راح يستذكر هذه الزيارة فأوحت له بكلمات: زوروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرة. وراح يغنيها لـ«الإخوان» المتصوفة. المقصود بالزيارة طبعاً، زيارة مثوى الحبيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة.
من سنن هذه الجماعة حب السفر والتنقل من ديرة إلى ديرة. فما برح هذا الرجل الضرير حتى رحل إلى مصر. وهناك راح يلقي عليهم ما عرفه من أدوار. تتلمذ الكثيرون منهم على أصول غنائه وتعلم منه عبده الحامولي، كما تعلم هو منهم الغناء المصري. قضى بضع سنوات في تكيات القاهرة. وكان من مخلفاته فيها أغنية زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة.
استمع إليها سيد الطرب المصري، سيد درويش، فغناها وسجلها. ولا بد أن استمع الرحباني إلى غنائه لها فأعجبته ولقن فيروز بها. وهكذا عادت الأغنية إلى موطن ولادتها في ديار الشام.
ولكن الملا عثمان عاد في الأخير إلى العراق واستقر في جامع الخفافين ببغداد، يرعاه الكثير من المحسنين، حتى توفاه الله عز وجل في عام 1923 بعد تأسيس المملكة العراقية. مات دون أن يدرك ما سيكتب لأغنيته، زوروني كل سنة مرة.