حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

اللحظة الكبرى لكوريا!

عندما أعلن منذ أيام عن فوز الفيلم الكوري الجنوبي «باراسايت» (ويعني الطفيلي) بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم، وفوز مخرجه بونغ جون هو بجائزة أفضل مخرج، انطلقت الأخبار والتعليقات التي تؤكد أن هذه هي «اللحظة الكورية الكبرى». كان الوجدان العالمي يربط اسم كوريا بحرب مدمرة في الخمسينات، أدت إلى تقسيم البلاد إلى شمالية وجنوبية. شمال يُحكم من قبل نظام شمولي شيوعي مستبد، وجنوبي عُرف عنه الفساد وكثرة الانقلابات العسكرية، والاقتصاد الذي يعتمد على السلع الرخيصة وسيئة السمعة وقليلة الجودة، حتى تكونت عنها سمعة أنها الدولة الأشهر في السلع المقلدة ولها ثقافة مشهورة في هذا الشأن. عرفت ذلك شخصياً خلال زيارتي عام 1988 لسيول وتجولي في شارع ايتاوان المشهور بالسلع المقلدة، وكان المشهد صادماً لما رأيته من السلع المشهورة كافة تُباع مقلدة بأرخص الأسعار. كان المحرك الأساسي لكوريا هو «عقدتها» من الاحتلال الصيني القديم لها، وعقدتها الأكبر من الاحتلال الياباني لها خلال القرن الماضي. ولذلك حرصت كوريا الجنوبية على بناء نموذج للأعمال مستنسخ من النموذج الياباني. الشركات الكبرى في اليابان لها تكتل اسمه «السوجاشوشا»، وشكّل الكوريون تكتلاً مشابهاً لشركاتهم الكبرى باسم «الشيبول». وبدأ صعود نجم شركات مثل «إل جي» وسامسونغ» و«هيونداي» و«سانغ يونغ» و«دايوو» لتنافس وبشراسة مثيلاتها من اليابان.
لكن كوريا الجنوبية لم تكتفِ بذلك، فهي اهتمت بترسية دولة القانون وتكريس الحريات وحماية الديمقراطية ومحاربة الفساد. سجنت اثنين من رؤسائها السابقين وكبار التنفيذيين في شركاتها الكبرى بتهم الفساد، واتخذت إجراءات قانونية ودستورية أقوى تحصن موقع البيت الأزرق، المقر الرئيسي للرئيس الكوري ضد أي محاولة لإفساد ساكنه. وأطلقت الحكومة أهم برنامج تطوير للتعليم عرفه العالم الحديث، وأصبح التعليم في كوريا من أهم خمس دول في العالم. واهتم الكوريون بتطوير البنية التحتية الإلكترونية حتى تحولت سيول إلى أكثر مدن العالم ذكاءً. وحرص الكوريون، وهم يزدادون ثقة بأنفسهم، على أن يصدّروا للعالم ثقافتهم، فبات «الكي بوب»، وهو وصف للغناء الجماعي لمجموعات الشباب الموسيقية في كوريا، أحد أهم الصادرات الكورية للعالم. وعرفت الأغاني والفرق الموسيقية الكورية بالاسم في كل قارات العالم كافة، تماماً كما حصل منذ بضعة أعوام عندما احتلت الأغنية الكورية «جانجام ستايل» الصدارة حول العالم.
وتوسع اهتمام العالم بالثقافة الكورية لتشمل المطبخ الكوري، وبدأ الناس في تذوق المخلل الشهير «الكيمتشي» الذي يُضرب به المثل في كوريا بأن البنت التي لا تعرف عمل «الكيمتشي» لن تتزوج. وكذلك تعرّف العالم على المشاوي الكورية المميزة، وتعرف العالم على المسلسلات الكورية والأفلام الكورية وألعاب الفيديو. وفي يوم من الأيام التقيت الصديق عبد الله جمعة، وكان وقتها رئيساً لشركة «أرامكو» (وأبو منذر للأمانة من أكثر الشخصيات المثقفة التي عرفتها)، وكان يحمل كتاباً، سألته: ماذا تقرأ؟ قال لي: أقرأ رواية كورية مترجمة بالإنجليزية. «أرامكو» لديها علاقات واستثمارات كبيرة مع كوريا، ولا بد أن نعرف كيف يفكرون. كوريا الجنوبية تتألق باقتصاد عظيم وتعليم ناجح وتقنية عصرية وسياحة جاذبة ونظام صحي متميز، ولديها حلم توحيد شبه الجزيرة الكورية لتكون منافساً أقوى لليابان والصين، كما حلمت دائماً.
بونغ جون هو ليس هو السفير الكوري المتألق، لكن هناك أيضاً سون هيونغ مين أحد أهم نجوم الدوري الإنجليزي لكرة القدم اليوم. كوريا وصلت بعمل جماعي عظيم، كانت يوماً تفتخر بقصة نجاح أحد رجال أعمالها السيد لوتي الذي بدأ صناعة العلك وحولها إلى إمبراطورية فنادق وأسواق وملاهٍ هائلة، واليوم قصص النجاح الكورية لا تتوقف وآخرها الفيلم العبقري «باراسايت» الذي يروي مثالاً بسيطاً لإمكانية التعايش بين نموذجين مختلفين من الناس، وهي قصة لها مثال وشبيه في كل مكان في العالم، ولذلك نجح. كوريا وصلت... إنها لحظتها.