د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

طول ساعات العمل والإنتاجية

كلنا يتذكر صورة الأطباء الصينيين وهم مستلقون في المستشفى بملابسهم الرسمية في غفوة يستجمعون بها قواهم لمجابهة مرض «كورونا» المستجد. ورأينا تلك الصور في حالات سابقة بقطاعات صينية مختلفة. وأذكر أنني كنت أتعجب من أهل الصين الذين يغفون حولنا على طاولات الدراسة في بريطانيا وأميركا ثم سرعان ما يعودون إلى انهماك عجيب في العمل. وكذلك أثار استغرابي الهنود في زياراتي لنيودلهي ومومباي حينما رأيتهم يعملون من ساعات الصباح الأولى حتى السابعة والثامنة مساء، وهو ما يتجاوز معدل الساعات المقترح من منظمة العمل الدولية، 40 ساعة عمل أسبوعياً (أي 8 ساعات يومياً)! غير أنني حينما عملت فترة في أميركا رأيت بنفسي كيف كانت أعداد غفيرة من الموظفين يغادرون مقار أعمالهم في غضون ساعة بعد موعد نهاية الدوام الرسمي، كان ذلك واضحاً في اكتظاظ وسائل النقل والطرقات.
قبل أيام، صدر تقرير من مؤسسة «آر إس كمبونيشن» المبني على بيانات منظمة العمل الدولية، حيث صنفت فيه ميانمار ومنغوليا وباكستان وبنغلاديش والصين وتركيا وغيرها كأطول دول العالم بالنسبة لساعات العمل (بين 47 و48 ساعة)، في حين أن هولندا وأستراليا ونيوزيلندا ورواندا والدنمارك والنرويج يعملون ما يتراوح بين 32 و34 ساعة أسبوعياً، أي أقل من المعدل العالمي المتعارف عليه.
والمفارقة التي ظهرت في ذهني بأن الدول التي لديها أطول ساعات عمل ليست أكثرها تقدماً ولا إنتاجية، بل الملاحظ أن البلدان التي تعمل بمعدل يقارب 40 ساعة مثل بريطانيا وأميركا وفرنسا وما دون ذلك هم من أكثر الدول تقدماً وإنتاجية.
ولمن عركته الحياة في ميادين العمل يدرك بأن طول ساعات العمل ليس مرتبطاً بالضرورة برفع الإنتاجية. مثلما حدث مع شركة نيوزيلندية منحت العاملين فيها ثلاثة أيام عطلة وكان العمل محصوراً في أربعة أيام فقط بدلاً من الخمسة المعتادة حول العالم، فارتفعت الإنتاجية! وحقق نحو 78 في المائة من الموظفين توازناً ملحوظاً بين عملهم وحياتهم الشخصية.
مشكلة البعض أنه يهدر أوقاته في أمور هامشية ثم يكتشف أنه لم يتبق له وقت لإنجاز مهامه فيتأخر عن موعد الانصراف. والأسوأ أن يؤخر المدير موظفيه لساعات متأخرة بحجة متطلبات عاجلة أنسته انشغالاته «التافهة» أن يخطرهم بها في الصباح الباكر، لأنه كان يمضي جل وقته في ثرثرة أو اجتماعات أو زيارات عديمة الجدوى. وقد رأيت بنفسي كيف يتظاهر البعض بإرساله لباقة من الرسائل البريدية «المعلبة» بعد نهاية الدوام ليتظاهر أمام الجميع بأنه ما زال حتى ساعات متأخرة في مكتبه، مع العلم بأنه قد كتب كل تلك الرسائل في وقت سابق، وكان يمضي معظم نهاره في توافه!! وربما لهذا السبب نلاحظ أن أفضل إنتاجية تظهر في اليوم الأخير من الأسبوع أو قبيل بدء الإجازة الشخصية الطويلة لحرص الموظف الشديد على الانتهاء من كل التزاماته في فترة زمنية قصيرة قبيل الإجازة.
ولهذا فقد آن الأوان لإعادة النظر في تقييم الموظفين على أساس ساعات العمل، وعدم تناسي الهدف الأساسي، وهو مدى الإنتاجية التي بها تتقدم المؤسسات وتتألق.