وهل يمكن إجراء أي تسوية حقيقية لهذا النزاع بعد الانتفاضات العربية.. أم أن هذه الانتفاضات فرضت واقعا جديدا؟
TT

أَبو العلاء المَعري.. القضية أكثر مِن قطع رأس تمثال!

سارت الرُّكبان بنبأ قطع رأس الشَّاعر والفيلسوف (مِن خلال ما طرحه في لزومياته) أبي العلاء المعري (ت 449 هـ). أقول قطع رأس المعري لأن السَّياف ما كان يقصد التِّمثال، فلو قصد ذلك لهدم التِّمثال كاملاً، لكنه كان يقصد صاحبه، الذي نُصب بمسقط رأسه معرة النّعمان، مِن عمل نحات سوري فتحي محمد قباوة (ت 1958)، ونُصب تكريماً للمعري العام 1944، بمناسبة مرور ألف سنة على وفاته، هذا ما اشتهر عن المناسبة. لكن عند الحساب لا أظن أن العام 1944 يصادف الذكرى الألفية لوفاة المعري، ذلك أنه توفى 449 هـ والمصادف بالميلادي 1057، وأن 1944 تصادف بالهجري 1363، فكيف تكون ذكرى الألفية، وهي مِن المفروض أن تصادف 2057 ميلادياً و1449 إذا أُخذت على التقويم الهجري.

على أية حال، ليس هذا شاهد مقالنا، إنما الشَّاهد هو إيذاء أبي العلاء المعري في قطع رأسه، بعد مرور نحو ألف عام على وفاته، وتسعة وستين عاماً على نصب تمثاله، وتكفي هذه السّنون أن يكون جزءاً مِن معرة النُّعمان، حيث ولد ورقد صاحبه. تحطيم النُّصب التّذكارية، في حالة المعري، لا علاقة لها بالسّياسة، فلم يكن حاكماً فأسقطته ثورة أو انقلاب مثلما سيحدث لتَّماثيل حافظ الأسد (ت 2000)، أو جداريات نجله بشار الأسد، ومثلما حدث مِن قَبل مع نُصب صدام حسين (أعدم 2006) وغيرهم الكثير.

إنما كان قطع تمثال المعري لسبب آخر، فكري بالأساس يتعلق بالتَّشدد الدِّيني، وهو في الحالتين إن كانت فعلتها “جماعة النّصرة” الأُصولية أو فعلها النِّظام السُّوري كي يشيع الرُّعب في نفوس أهل الفِكر والثَّقافة مِن الجماعات التي تحاربه، يكون السَّبب دينيا وقمعيا ضد أهل الأفكار. مع ظننا أن الذي قطع رأس أبي العلاء، حاله حال مَن صوب كاتم الصَّوت على حسين مروة (اغتيل 1987)، ومَن أطلق الرَّصاص على فرج فودة (اغتيل 1992)، ومَن وضع السَّكين على رقبة نجيب محفوظ (ت 2006)، لم يقرأوا لهم، إنما صدرت فتوى مِن مشايخهم بهدر دماء هؤلاء.

ترك أبو العلاء المعري حواراً وجدلاً، شغل به الأجيال والعصور، ولعله كان الأكثر حضوراً بين مجايليه في التراجم والرُّدود، مع عدم نسيان بيت أبي الطَّيب المتنبي (اغتيل 354 هـ)، وكان المعري يعشقه:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
كان المعري مسالماً إلى كره تناول اللحوم، وعاش نباتياً، وفهم المتأخرون سلوكه هذا، فكانت الوليمة التي أقيمت في احتفالية المجمع العلمي السوري به خالية مِن أثر حيواني، لا بيضاً ولا لبناً، ويُنقل عنه أنه قال متحدثاً مع فرخ الدَّجاج. روى القصة ياقوت الحموي (ت 626 هـ) ناقلاً عن مجايل المعري غرس النِّعمة أبي الحسن الصابئ(ت 480 هـ): “لم يأكل اللَّحم منها خمساً وأربعين سنة، وحدثت أنه مرض مرة، فوصف الطَّبيب له الفروج، فلما جيء به لمسه بيده وقال: استضعفوك فوصفوك، هلا وصفوا شبل الأسد”(معجم الأدباء).

أول ما سمعنا بالمعري، كاسم، ونحن تلاميذ المدرسة الابتدائية، لم نتعلم شيئاً عنه في المنهج، إنما عمدت وزارة المعارف العراقية، في الخمسينات، من القرن الماضي، إلى فتح مدرسة على حافة الأهوار بمحافظة الناصرية، وجعلتْ اسمها مدرسة “أبي العلاء المعري”، ولعلها قائمة حتى هذا اليوم، فأسماء كثيرة تبدلت، ومِن البشارة أن يظل اسم المدرسة باقياً. فهناك أصوات علت ضد تمثال أبي نواس، الذي عاصر العابد معروف الكرخي (ت 200)، وقيل دفنا في مقبرة واحدة.

قبل هذا وقف أحد فقهاء الدِّين، مع انفتاحه غير المرغوب فيه من المتشددين، قُبيل الحرب العِراقية الإيرانية، يطلب إزالة تمثال أبي نواس، على أنه فارسي مجوسي. لكن أبا نواس ولد بالبصرة مِن أب في الجيش المرواني وأم بصرية، اسمها جلبان اشتهرت بعنايتها للأطفال اللُّقطاء، وهو منحى إنساني، فالأمر يتعلق بالطُّفولة، غير أن مَن كتب سيرة أبي نواس أخذ إنسانية أمه مثلباً عليه. قال ابن منظور (ت 711 هـ): “امرأة موسورة بالبصرة، كانت تجمع أولاد الزِّنا وتربيهم”(مختارات الأغاني). وفعلها الإنساني هذا لا يقل أهمية مما فعله صعصعة بن ناجية جد الشَّاعر الفرزدق(ت 110 هـ) يوم كان يدفع ديات البنات في الجاهلية، حتى لا يَؤدنَ، فقال الحفيد:
وجدي الذي منع الوائدات
وأحيـا الوئيـد فلم تُوءدِ
كان أبو نواس في الحرب بين الأخوين الخليفة محمد الأمين (قُتل 198 هـ)، وأمير خراسان عبد الله المأمون، مع الأول، وكان أنصاره مِن العرب بينما كان أنصار الثَّاني مِن الفرس. نعم هجا أبو نواس عرباً، وهجا موالياً أيضاً، وهو شاعر الحداثة، ومِن حقه ببغداده نصباً وذكرى! كذلك جرت محاولات، بعد أبريل (نيسان) 2003 استبدال اسم الشَّارع “أبو نواس” بتسمية المهدي، مع أن المهدي لم يلد ولم يغب ببغداد بل بسامراء، حسب المشهور مِن الأخبار. لكنه العناد والاستحواذ، فمثل أبي نواس ليس له جيش ولا ميليشيا تدفع عنه الأذى، بينما كم ارتقت بغداد وشاع التبغدد (التحضر) عبر شعره.

بعد اسم تلك المدرسة عرفنا أبا العلاء المعري عن طريق رائعة محمد مهدي الجواهري (ت 1997) “قف بالمعرة”؛ التي ألقاها العام 1944، بحضور طه حسين (ت 1973)، وقد اهتز لها الأخير، بمناسبة ألفية الشَّاعر. وليس تعصباً بلدانياً للجواهري لأنه العِراقي، غير أن الحقيقة أنه لم يُقل في المعري مثلما قال فيه الجواهري، بل شرحت القصيدة خفيات فكره، وبسطت للأجيال شخصيته وسلوكه. واعترض على مَن قال: إنها بداية الجواهري، بل له قصائد معلقات منذ العشرينات من القرن الماضي، لكن الكلام يرمى على عواهنه عندما يقول أحدهم إن هذه القصيدة كشفت شاعرية الجواهري، وهي مِن مطولات الشَّاعر، ولو قرأها قاطع رأس تمثال أبي العلاء المعري، وكان منصفاً، لاعتذر عن فعلته.

تحدث الجواهري عن ولادة قصيدته “قف بالمعرة”، كان مسافراً إلى الشَّام مع ناظم الزَّهاوي وحسن الطَّالباني، فأُنزل في نقطة التَّفتيش، والتحق بعدها، وكان ذلك (1944) أوان الانتداب الفرنسي، وبطريق الصدفة علم أنه ضمن الوفد العراقي المقرر حضور ألفية أبي العلاء، أُخبر بذلك قبل أسبوع، وهو قبل يوم لم تكتمل لديه القصيدة، فقد كتب قصيدة تضمنت سبعين بيتاً، لكنه مزقها ورماها، لأنه لم يجد فيها أبا العلاء المعري، فاصطحبه صديقه عمر أبو ريشة معه إلى زحلة لبنان، وهناك حضر المطلع فقط (الجواهري، ذكرياتي). اكتملت القصيدة ليلة المهرجان، وتضمنت نحو مئة بيت. حضر المهرجان طه حسين وكبار الأدباء، ودفع طه خمسة آلاف جنيه لإتمام بناء قبر أبي العلاء، والصرف على نشر كتبه (الجواهري، ذكرياتي).

بهذا يمكن القول: إن طه حسين يرى نفسه في المعري، فهو العام 1914 يكتب “ذكرى أبي العلاء”، ويقدمها في ما بعد لنيل الدكتوراه الأُولى (1925)، فالثَّانية كانت عن ابن خلدون، وهو يتحمس لهذا المهرجان ويصرف عليه، وأن الجواهري كان وهو يقرأ قصيدته يشير إلى طه بلا قصد، وكأنه يخاطب المعري، فقد جمع بينهما العمى والفكر أيضاً. يقول الجواهري واصفاً ذلك الموقف: “بينما كنت ألقي القصيدة كانت يدي اليمنى تمتد، عفو الخاطر، إلى الكتف اليسرى للدكتور طه حسين، الذي كان بجانبي، وهذا الرَّجل ليس أبا العلاء، لكنه كان الوحيد ممَن يجمع ما بين فكره وملامحه شيئاً غير قليل مِن خصائصه”(ذكرياتي).

كانت واحدة مِن روائعه، وسماها شاعرها بتاج القصائد، التي قالها آنذاك. مَن يسمعها بصوت الجواهري أو يقرأها في ديوانه قد يكتفي بفهم المعري، ويندفع لقراءة كتبه ودواوينه، ومطلعها وأول أبيات منها: قف بالمعرة وأمسحْ خَدَّها التَّربا
واستوح مَن طوَّق الدُّنيا بما وهبا
واستوحِ مَن طبب الدُّنيا بحكمته
ومَن على جُرحها مِن رُوحه سّكبا
وسائلِ الحُفرة المرموق جانبُها
هل تبتغي مَطعماً أو ترتجي طَلبا
يا بُرجُ مفخَرة الأجداث لا تهِني
أن لم تكوني لأَبراج السَّما قُطبا
فكلُّ نجمٍ تمنى في قرارته
لو أنَّه بشُعاعٍ منكَ قد جُذبا
وتجده يصف أحوال المعري، ويصوره وهو في بساطة العيش وثراء الفكر قائلاً:
من قبلِ ألفٍ لَو انَّا نبتغي عِظةً
وعَظْتَنا أنْ نَصونَ العلمَ والأدبا
على الحصيرِ.. وكوزُ الماء يَرفدُه
وذِهنُه.. ورفوفٌ تحمِلُ الكتبا
ومنها البيت المشهور:
لِثورة الفكرِ تأريخُ يحدِّثنا
بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونّها صُلبا
ويختم الجواهري قصيدته، التي أراد لها أن تكون معلقة في العدد، مثلما كانت معلقة في الحِبكة:
لكنَّ بي جنَفَاً عنِ وعي فلسفةٍ
تقضي بأنَّ البرايا صُنِّفتْ رُتَبا
وأنَّ مِن حِكمةٍ أنْ يجتني الرُّطَبا
فردٌ بجَهد ألوفٍ تعلكُ الكَرَبا
هذا ولم يكن الجواهري وحده مِن بين العِراقيين الذين قدروا أدب المعري وفكره، بل سماه معروف الرَّصافي (ت 1945) بشاعر البشر (كتاب الشخصية المحمدية)، وصنف فيه أكثر مِن كتاب، تركها مخطوطات، ثم طُبعت بعد وفاته، مثل: “على باب سجن أبي العلاء المعري”(بغداد 1946)، وكتاب “آراء أبي العلاء المعري” (بغداد 1955).(صفوة، معروف الرصافي). لقد أثر المعري كثيراً في رواد النَّهضة الفكرية العربية، وفتح لهم ومهد لجني ثمار النَّهضة الأوروبية، فالأصل كان هنا وفي قصائد المعري، ورسائل إخوان الصَّفا، الذين يقول طه حسين: إنه تأثر بهم عندما أقام ببغداد سنة وسبعة شهور، وعاد يكتب روائعه بمعرة النّعمان، وشعره يؤكد إقامته ببغداد وانتفاعه منها، وهو القائل: لنَّا ببغدادَ مَن نَهوى تحيته
فإن تحَملها عنَّا فحُيينا (سقط الزَّند).
لقد خيب الجواهري ظنون الذين ظنوا أن شاعر القصيدة وموضوعها قد بعدا عن الدِّين، وعليه استحق المعري أن يُقطع رأسه. قال:
آمنت بالله والنُّورِ الذي رسمَتْ
به الشَّرائعُ غُرّاً منهجاً لَحِبا
وصُنتُ كَّل دُعاةِ الحقِّ عن زَيغٍ
والمُصلحينَ الهداةَ العُجْمَ والعَرَبا
وقد حَمِدتُ شفيعاً لي على رَشَدي
أُمّاً وجدتُ على الإسلامِ لي وأبا
(الدِّيوان)، والقصد لا يحتاج إلى تفسير وتأويل.