وهل يمكن إجراء أي تسوية حقيقية لهذا النزاع بعد الانتفاضات العربية.. أم أن هذه الانتفاضات فرضت واقعا جديدا؟
TT

مدينة العلوم والتقنية في الرياض.. جهود حثيثة لبيع الشَّمس!

مدينة العلوم والتقنية، تحتل مساحة واسعة في وسط العاصمة السعودية الرياض، وجدتها مترامية الأطراف، يقطعها شارع رئيس، من الشَّرق إلى الغرب، والمرور بين نصفيها عبر نفق طويل، قيل لي تعود بدايات تأسيسها إلى العام 1974، حتى اكتمل التأسيس العام 1979، وتحولت من عنوان إلى آخر حتى استقر عنوانها “مدينة الملك عبد العزيز”، مؤسس المملكة العربية السُّعودية، والبدايات عادة تعود إليه، فمن دخوله قلعة أو قصر “المصمك” (1902) وحتى وفاته 1953 اتضحت معالم البلاد، وهي الأخرى مترامية الأطرف تزيد مساحتها على مليوني كيلو متر، معظمها صحارى.

عند مدخل المدينة تلفت نظرك لافتة ضوئية، تراها واضحة في عزِّ الظهيرة، تقول: “البداية صعبة”، أو “حيث تنمو المعرفة”، “السعادة في الطَّريق”. ثم تأتيك أقسام المدينة، وجميعها ذات عناوين علمية تتعلق بالإلكترون والبتروكيميائي وخلايا الشمس والإنسان الآلي، والفضاء، وبحوث الطاقة، والكمبيوتر العملاق، والمراصد، والنانو، وهو الأجسام الدقيقة. وكم يذكر هذا القسم وأجهزته بالمتكلمين الأوائل مِن معتزلة وخصومهم في قضية “الجزء”، منهم مَن قال: لا يتجزأ، أي هناك حدود في التجزئة، ومنهم مَن قال: لا حدود للتجزئة! وعلى ما فهمته مِن شرح مسؤول القسم الدكتور أحمد اليماني أن أجهزته التي يعمل عليها تؤكد رأي شيخ المعتزلة إبراهيم بن سيار النَّظام (القرن الثالث الهجري)، أي لا حدود للتجزئة، ولما أبديت له ظنوني في ذلك، قال نحن نتعامل مع العلم والآلة التي تراها! وقدرة الله لا حدود لها!
سألني رئيس المدينة الدكتور محمد بن إبراهيم السُّويل، وهو يحرص أن يخرج من مكتبه لاستقبالك خارجه، عن العِراق، الاجتماعي والفني والعلمي لا السِّياسي، ووجدت لديه تفاصيل مهما تحدثت لا أزيد عليها، حتى شعرت أن لديه عاطفة للعِراق، مع أنه ليس مِن النجادة الذين عاشوا هناك، مِن آل السَّعدون مثلاً أو آل الخميس، وبعد أن أتم حديثه سألته عن الشَّمس ودورها البديل عن النِّفط، بعد أن لاحظت العديد من الخلايا اللاقطة للطاقة الشَّمسية، قال: بدأنا نشرب الماء مِن الشَّمس، فلم أفهم العبارة! فقال: ما هو الأهم اليوم بين الأشياء التي تحتاج إليها البلاد؟ وأجاب: إنه الماء، فنحن بدأنا بتشغيل محطات تجريبية لاستعمال الشَّمس كطاقة في تحلية الماء. السُّويل يتحدث لغات عدة، ومنها اللغة الصِّينية.

فقصصت عليه قصة الشَّيخ جلال الحنفي (ت 2006)، وكان يُعلم العربية بالصِّين، فتعلم شيئاً من الصِّينية هو وزوجته، ولما عاد إلى بغداد حرص أن يتحدث مع زوجته بها كي لا ينساها، ومع مراقبة التلفونات رصد الرقيب كلاماً غريباً عجيباً، بين الشيخ وبيته، فظنوه شفرةً لأمر ما قد يهدد الأمن! ففاجأه الرقيب بالدخول على الخط قائلاً: “يا شيخ أتتحدث بلغة الطُّيور”؟! وقطع عنه الهاتف. رئيس المدينة يحتاج لهذه اللغة، فالتعامل مع الصِّين في التكنولوجيا ليس قليلاً. وأخذنا الحديث عن ظاهرة الشَّيخ الحنفي، الذي ألف قاموساً للصينية بالحروف العربية ولم ينشره، إنه أحد مؤرخي المقام العِراقي، مع أنه عالم دين، ويُجيد العزف على آلاته الخاصة، فوجدت الدكتور السُّويل أحد المعجبين والمتابعين لهذا الضرب مِن الفن العِراقي.

ظلت فكرة بيع الشّمس مثيرة لي، هذا ما سألت به نائب رئيس المدينة لمعاهد البحوث الأمير الدكتور تركي بن سعود بن محمد: هل ستبيعون الشَّمس بعد بيع النفط لهذا الزمن الطَّويل! قال: لدينا الرَّمل ومنه تستخرج المادة الرئيسة في صنع خلايا حفظ الطاقة الشمسية، وشاهدت واحدة منها. فنبعت في ذهني فكرة برميل النَّفط، وكيف أن هذه الأرض تبقى مصدراً للطَّاقة، وإذا كان النَّفط ينضب، فالشَّمس لا تنضب وهي تجدد نفسها، هذا ما سألته وأجبت عليه، بينما مسؤول المعاهد العلمية كان يشرح لي عن أحوال المدينة وما تقدمت به من خبرات واختراعات ليست قليلة في شتى المجالات، حتى يمكن وصفها بالعقل المدبر للشؤون العلوم والتقنيات بالبلاد، واحتضان أصحاب البراءات أو الاختراعات العلمية.

لكن كل هذا لا يعطي صورة واضحة إلا بعد زيارة حقول الخلايا الشَّمسية، أو مثلما قيل لي: مزرعة الشَّمس، وتقع بمنطقة العيينة في طرف مدينة الرِّياض، وهناك يشغلك التَّاريخ والعلم في الوقت نفسه. فالعيينة، التي فسرها لي مدير العلاقات العامة منصور بن سهو العتيبي، لما سألته عن الاسم، بقوله: “ربَّما” هي تصغير لعين الماء، التي كانت موجودة فيها. ومثلما نعلم أن المدن تبنى على الماء مثلما تبنى على المحتطب والحصانة، هذا ما ينسب لإخوان الصفا(القرن الرابع الهجري) وأورده أبو حيان التوحيدي (ت 414 هـ).

على رملة العيينة مازال أثر لقصر طيني، قيل لي: إنه قصر أمرائها الأقدمين آل معمر، وبيت أو مسجد الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1792)، قبل فراقه لأميرها وتوجهه إلى منطقة الدّرعية، هذا ما قرأته مِن زمن عن حوادث ذلك الزَّمان، لكن الدّنيا تبدلت وصار يقابل ذلك الأثر الطِّيني، والمسور بشبك من قبل هيئة الآثار والسياحة، محلات حديثة للخياطة والحلاقة وبيع المبايلات.
في أعلى الجبل هناك غابات من الخلايا الشَّمسية، وهي فرع مِن فروع مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، فما أن ترى شعار المدينة: لوحة بيضاء نقش في أعلاها ما يشبه سعفتين أو ورقتين زرقاء وخضراء، ترى مؤسسة علمية أو مرصداً، أحسب اللونين إشارة إلى السَّماء والخضرة، فهما يدلان على مهام المدينة، فكلها متوجه إلى الشَّمس والفضاء وإلى الأرض. وكلما بدأت أعد خطاً من خطوط تلك الغابة، يتيه عليَّ الحساب، وأعود مِن جديد.

ولما سألت مِن أين تستورد هذه الصفائح، استغرب مِن سؤالي مدير محطة أبحاث الطَّاقة الشَّمسية المهندس عادل بن سعد الشُّهيوين! وقال: سترى أين تصنع! وبالفعل استقبلنا شاب ذو قامة وعضل، المهندس القحطاني، وهو المكان الوحيد في المدينة وفروعها لا يُلتزم فيه بالباس الوطني، العقال والشماغ، فقبل الدخول سألته، وظننته متمرداً، فقال العمل بين الآلات يتطلب هذه الثِّياب، وأشار إلى بنطلونه وقميصه، وتابع معي صناعة تلك الخلايا خطوة خطوة، مِن صفيحة عادية إلى خلية شمسية. كان الشَّباب السعوديون الفنيون يعملون بحماس وبلا توقف، فهناك طلبية هائلة، عليهم إنجازها وشحنها، ولم يتركني القحطاني حتى آخر خطوة وهي تعبئة تلك الخلايا في صناديق خاصة.

إن الشَّمس التي يتضايق مِن وهجها أهل البلدان المشمسة، وعلى وجه الخصوص في فصل الصِّف، ظلت تهدر طاقتها لملايين مِن السنين، حتى وصل العِلم والتَّقنية إلى اتخاذها بديلاً للطاقة، يُحلى بها ماء البحر، وتضاء بها الطُّرقات، أي تولد الكهرباء بدلاً مِن النِّفط، وحينها لا تخاف الشعوب المشمسة مِن نفاذ النفط في جوف الأرض. لكن الأمر دار في خَلدي وأنا أشاهد تلك الغابات الشمسية: هل يتحول الصِّراع، الذي نسمع به على النِّفط، إلى صراع على الشَّمس، فالأمر يتعلق بمصادر الطَّاقة، وهي في كلِّ الأحوال مادة استراتيجية، فلا بد مِن استغلالها محلياً عبر مدن عملاقة في العلوم والتقنية، فليس في هذه الأرض أغزر مِن أشعة الشَّمس وأقل مِن الماء، الذي بها يتحول ماء البحر ليصير “سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ”، وما يتبع ذلك مِن جنَّات النَّخيل والأعناب، فما عاد البئر كافياً، وما عاد النِّفط مناسباً لكثرة التلوث، فلا بد مِن نظافة الشَّمس. يغلب على الظن، بل في حُكم المؤكد، ستبيع هذه المنطقة الشَّمس، فقلتها ببلدان الصناعات العملاقة كقلة النِّفط فيها!