وهل يمكن إجراء أي تسوية حقيقية لهذا النزاع بعد الانتفاضات العربية.. أم أن هذه الانتفاضات فرضت واقعا جديدا؟
TT

أَحمد القبانجي.. جذوة العقل وظلمة المعتقل!

بدأت أتعرف على الباحث والكاتب والمترجم وفقيه الدِّين العراقي السِّيد أحمد القبانجي بعد أبريل (نيسان) 2003. لمحت له مقابلة في صحيفة عراقية فاسترعى التفاتي، وهو يعتمر عِمامته السَّوداء، كعَلامة على أنه مِن آل البيت، ثم شاهدت له مقابلة في قناة “العربية” عبر برنامج إضاءات مع الإعلامي تركي الدِّخيل، وبعد ذلك تابعت مؤلفاته وترجماته لباحثين إيرانيين ليسوا على وفاق مع الأفكار الرَّسمية ببلادهم.

بقيت أبحث مِن أين خرجت هذه العِمامة، وما بعد أبريل 2003 كثر خروج مدعي المهدوية ونيابتها، منهم مَن اكتفى بدعوته بلسانه، ومنهم مَن حمل السِّلاح وصرخ بالصَّيحة الكبرى، التي بعدها يخرج الإمام المهدي، وخرجت عِمامة بيضاء تدعي أن علاج الأورام وما عجز عنه الطِّب، يكمن في “جكليته” (قطعت حلوى مغلفة)، وآخر قال: إن سفينة نوح شيدت بخمس خشبات، وما أن غرز النَّبي نوح المسمار في الخامسة حتى نفط منها الدَّم، لأنها خشبة الإمام الحسين! والجمهور العريض يثني بلا دراية.

بالمقابل هناك مشائخ غزوا البلاد بفتوى القتل وممارسته، وكان يومها الزَّرقاوي (قُتل 2006) أحدهم، لِم لا؟ فهو يدعي أنه فقيه وأخذ الوكالة مِن شيخه بن لادن (قُتل 2011)، فانسحب العقل ولاذ صامتاً فما له والقتل على الهوية، وما له في أرض ادعى وجهاء الدِّيانة فيها أن مجيء الأمريكان غرضه تعطيل خروج المهدي المنتظر. حينها أخذت أورق في صفحات التَّاريخ لعلي أجد أياماً حمقى مثل هذه الأيام، فوجدت شيئاً مِن هذا القبيل، لكن لم يكن يُحرك الجموع ويحولها إلى كائنات ترغي بشعوذة حتى يصعب تصنيفها شعوذةً!

لا أطيل النِّياحة على العقل المسلوب والمفقود، فهي لا تنتهي وكأني أرى هذه الأحزاب المتواترة هي على جنازة العقل، لغيابه أو بالأحرى موته، لهذا ربَّما ملَّ القراء مِني وأنا لا أدعهم ينسون جماعة ظهرت في يوم مِن الأيام تحمل لواء العقل، وجماعة أخرى حاولت أن تفسر ما تراه مِن ظاهر بالعقل أيضاً، وجعلته هو الأول، وأُعجبت بالموسيقى فصنفت رسالة فيها هي مِن أبلغ رسائلها وأطولها، وقبل ألف عام ويزيد نبهت هذه الجماعة النَّاس إلى فوائد الموسيقى على الرُّوح والبدن والعِشرة الاجتماعية، فطال الجماعتين ما يطيل الآن السَّيد أحمد القبانجي.

لا نعلم ما هو سبب اعتقال القبانجي مِن قِبل إطلاعات، وهو يزور مدينة قُم الإيرانية، لكن ما نعرفه جيداً أنه ليس مِن تجار المخدرات ولا بقية المكيفات، الذين يمرحون ويسرحون على الحدود، وليس حاملاً للسلاح، فقد تركه مع تركه معجباً بالثَّورة الإسلامية وبقائدها آية الله الخميني (ت 1989)؟ وكان ثمن هذا الإعجاب شلل يمينيه، اليد والرِّجل. فقد حارب مع الثَّورة لا “يبتغي مطمعاً ولا يرتجي مطلباً”.

قرأت مقالاً غنياً، ومسبوكاً بيراع جدير بالتقدير، عن السَّيد أحمد القبانجي، للأكاديمي العراقي سعد سلوم، نشرته صحيفة “المدى” البغدادية”، ولهذا الباحث دور مهم، في ظل الأجواء المتبلدة بالسُّحب الداكنة في سماء العِراق، بدفاعه عن الأُصلاء مِن مواطنيه أهل الأديان، نور لنا صفحات مِن حياة القبانجي، بدأً مِن صلته بحفيد الخميني وهو لا يزال بالنَّجف. بل إن كلمة لحسين الخميني في جده عندما عزل الرئيس الليبرالي بني صدر عن الرّئاسة، وسلم البلاد للخط الدِّيني في الثَّورة، أيقظت القبانجي مِن سباته.
في تلك اللحظة قال الحفيد في ثورية جده الإسلامية: “لقد انحرف جدي عن الإسلام”! ولا يقصد التكفير بطبيعة الحال، إنما يقصد انحراف الهدف الجنة الموعودة التي وعد بها الشَّعب الإيراني وبقية الإسلاميين الثَّوريين، وعن الحرية المكفولة، والخروج عمَّا كان الجد يثوَّر النَّاس به ويلهمهم. حتى قيل: “ذوبوا في الخميني كما ذاب في الإسلام”.

الإسلام الذي حارب القبانجي ضد بلاده مِن أجله، وأُصيب ثم كرَّ في الحرب، لعله يصل العِراق بنموذج مِن إسلام إيران الحاكم، فقتاله ضد بلده، الخارج عن الدِّين في اعتقاده السِّياسي، كان قتال عقيدة لا خيانة وطن مثلما يحلو للبعض تفسيره. وها هو نموذج الإسلام السَّياسي ينتقل إلى العِراق بنسخة مخيفة، قادت الأخ الخطيب في كلِّ يوم جمعة وسط النَّجف أن يُخرج أخاه مِن الدِّين والمذهب، لأنه فكر تفكيراً خارج السَّائد، وأراد أن يكون الإسلام بالعقل لا بالعاطفة، التي تجيش بها الجموع بلا وعي، تسير ولا تدري إلى أين هي سائرة، ما هي حقوقها، أين ثروات بلادها.
بعد سماع نبأ اعتقاله اتصلت على رقم نقال الصَّديق السَّيد أحمد القبانجي، لعله يُكذب النَّبأ، ويرد عليَّ بالآية: “.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”(الحجرات: 6)! لكن التلفون، ولأكثر مِن مرة، أعطى إشارة بأنه مغلق، فالسَّيد في مكان غير آمن، أتوه زوار الفجر: عشر دقائق وتعود، وها هو اليوم الرَّابع!

حتى هذه اللحظة الحكومة العِراقية، بقيادة حزب الدعوة الإسلامية، ساكتة سكوتاً مطبقاً، لم تنبس بكلمة، وكأن القبانجي ليس مِن رعاياها عراقياً، وهذا الإهمال يذكرنا بوصف دقيق للذي يتنكر للمعرفة: “يمر بنا مرور البطِ بالملاح”! يا دعوة ويا إسلاميي المرحلة، كان الرّجل يقاتل في الصُّدور وأنتم في الأطراف، وهو الذي رعى الأبقار وأنتم تحلبونها. لكنه لم يتمكن مِن مغالبة عقله، فالأخير غلبه ليخرجه مِن كهف الطَّائفية المظلم، وسخر مِن انعاش صراعات الحاضر بالتَّاريخ، أراد تحرير الدِّين مِن أن يكون سلماً لصعودكم! أقول: إن سكوتكم هيبة وشرفٌ له.

آخر لقاء لي بالسَّيد أحمد كان بالسُّليمانية، في نوفمبر (تشرين الثَّاني) الماضي، فيومها حرص على حضور مؤتمر أو ندوة الدِّفاع عن الأديان العراقية، رأيته يرفع رِجله اليسرى لتنهض اليمنى المشلولة، ويستر يده اليمنى المشلولة أيضاً بعباءته، وما خطورة المشلول على نظام يتصارع مع العالم!
في حالة أحمد القبانجي نذكر بما قاله محمد مهدي الجواهري (ت 1997) في قبانجي قديم، أراد يكون العقل تؤماً للدين وأن الله كله رحمة ومحبة:
على الحصير وكوز الماء يرفده
وذهنـــــــه ورفوفٌ تحمل الكُتبا
(قصيدة قف بالمعرة).
وهل يملك القبانجي (أحمد لا غيره) سوى الحصير وكوز الماء والكُتبا، في زمن المال العراقي السَّائب!
يعذرني الصَّديق القبانجي لم ألقبه بالمفكر، فأنا لا أستسيغ هذا اللقب، لأنه لو سأل أحد ما عملك يا مفكر! سيرد عليه قائلاً: التفكير! وهل هناك طفل أو شيخ لا يفكر! بل أقول: إن فيه أكثرَ مِن هذا، وأحيل إلى الجواهري أيضاً، وهو يرد على المتهالكين على الألقاب الكاذبة:
وزُمـرة الأدب الكابي بزُمرتــــــه
تفرقت في ضلالات الهوى عُصبا
تُصـــيَّد الجـــــاهَ والألقاب ناسيةً
بأن في فكــرةٍ قُدسية لقبـــــــــــا
(القصيدة نفسها)!