مارك شامبيون
كاتب من خدمة «بلومبرغ»
TT

مواجهة طويلة الأمد

إذا كان الرئيس فلاديمير بوتين هو روسيا، مثلما صرح مسؤول رفيع المستوى بالكرملين مؤخرا، فإن هذا يعني أن روسيا تشعر بالغضب والإهانة والمعاناة جراء إصابتها بما يكاد يتحول لعقدة نفسية ترى في أميركا مصدرًا لكل الشرور بالعالم.
وخلال كلمته الختامية وجلسة تبادل أسئلة وإجابات، في إطار مؤتمر «فالداي» السنوي الذي تقيمه روسيا برعاية حكومية، قال بوتين إنه سيتحدث بصراحة، لكن أسلوبه في واقع الأمر تجاوز ذلك، حيث شرع في استعراض قائمة طويلة من الإهانات والجراح التي أنزلتها أميركا بروسيا والعالم منذ انتهاء الحرب الباردة، وبدا على استعداد لمواجهة طويلة الأمد.
بالنسبة لبوتين، فإن أميركا ليست سوى «أخ أكبر» على مستوى العالم يتعمد الابتزاز والاستئساد على أنصاره، بينما يتسبب في زعزعة استقرار وشقاء البشرية بمختلف أرجاء الأرض. ولأن واشنطن مدركة لأنه لم يعد باستطاعتها الاستمرار في دور القوة المهيمنة الوحيدة في ظل عصر من القوى الصاعدة، فإنها تحاول تعويض هذه المكانة عبر إشعال «الحرب الباردة» من جديد، وخلق عدو جديد تحشد الدول الأخرى في مواجهته، حسبما ذكر بوتين.
وتبعًا للجولة التي قام بها بوتين عبر التاريخ المعاصر، فإن سياسات التدخل العدوانية الأميركية، أسفرت ليس فقط عن زعزعة استقرار العراق (وهو أمر حقيقي) وليبيا، وإنما كذلك سوريا (حيث لم تتدخل واشنطن من الأساس ضد الرئيس بشار الأسد) وتسببت في ظهور «القاعدة» وطالبان و«داعش». وأخيرا انتهى إلى المظاهرات و«الانقلاب على الدولة» في أوكرانيا هذا العام.
أما بالنسبة للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا بسبب ضمها جزيرة القرم وزعزعتها الاستقرار في أوكرانيا، فإن هذا أيضا جاء نتيجة ضغوط أميركية، حسبما قال بوتين - وليس أي إجراء اتخذته روسيا.
الملاحظ أن هناك كثيرا من الحقائق منثورة عبر شكاوى بوتين، وهي حقائق تكفي لجعله «وجه المقاومة» بالنسبة لكثيرين عبر أرجاء العالم، حسبما ذكر أحد مذيعي التلفزيون الروسي الرسمي المشهورين خلال سؤال طرحه.
بيد أن أكثر ما يثير القلق أن خطاب ما بعد تسعينات القرن الماضي، الذي طرحه بوتين - حول تعمد أميركا تجاهل وتطويق وعزل روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي - يؤمن به غالبية الروس إيمانًا مطلقًا، ذلك أن غالبيتهم يتعذر عليهم تخيّل أن مواطنين عاديين غير مسلحين - سواء في كييف أو دول «الربيع العربي» أو غيرها - قد يتصرفون من تلقاء أنفسهم، وليس كقطع بيادق في لعبة أميركية.
عن هذا، أوضحت توبي غاتي، الدبلوماسية الأميركية السابقة، عن بوتين أن «ما يدور بذهنه هو ما تعتقده روسيا. إن خطابه كان بمثابة تنفيس عن غضب كامن». وأخبرت غاتي بوتين أنها لا تعرف أميركا التي تحدث عنها، ليجيبها أنه لا يسعى للدخول في مواجهة.
الملاحظ أن الدعم الشعبي الكبير الذي يتمتع به بوتين خلال أي تصعيد محتمل، مكّنه من إبداء قدر كبير من العناد في مواجهة العقوبات وحمام الدماء في أوكرانيا.
وخلال كلمته، دعا بوتين لنظام عالمي يقوم على قواعد جديدة، مشددًا على أن بلاده لا تطمح لإعادة بناء إمبراطوريتها القديمة. ولا شك أن حديثه هذا، عبر شاشات التلفزيون الرسمي، كان موجهًا في جزء منه على الأقل للجمهور المحلي. بيد أن الفكرة المحورية التي دار حولها خطابه، حملت قدرًا كبيرًا من التحدي، حيث تساءل بوتين إذا كان بإمكان واشنطن خرق القواعد، فلماذا لا تفعل موسكو المثل؟ وحذر من أن روسيا لن تسعى للحصول على إذن أحد، إذا قررت سلك هذا الطريق.
لا شك أن الكثيرين يتحملون اللوم عن تردي العلاقات بهذه الصورة، والمؤكد أنه بالنسبة للراغبين في تسوية الأزمة الأوكرانية ورفع العقوبات عن روسيا، وإصلاح العلاقات بين موسكو وواشنطن، جاء هذا الخطاب مظلمًا ومحبطًا وأقرب ما يكون للتهديد.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»