فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

ما بعد جنرال إيران في سوريا

ليس من باب المبالغة القول بأن الوجود الإيراني في سوريا بعد غياب مهندسه قاسم سليماني، سيكون مختلفاً عما كان في حياته. غير أنه لا ينبغي المبالغة في هذه الحقيقة؛ لأن العلاقات الإيرانية - السورية لا تتعلق فقط بما فعله سليماني في السنوات الماضية - رغم أهميته - إنما تتعلق أيضاً بما ترسخ في العلاقات الإيرانية - السورية التي بنيت على نسق جديد منذ عام 1979، بعد استيلاء الملالي على السلطة في إيران، ثم جاء سليماني على منجزاتها، فأحدث تطورات ونقلات في العلاقات الإيرانية - السورية، تمثل فرقاً في الأخيرة.
لقد أدى سقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979 إلى بدء مرحلة جديدة في العلاقات الإيرانية – السورية؛ إذ شرع الأسد الأب وآية الله الخميني في تنظيم علاقات النظامين على أساس تبادل المصالح المباشرة.
فنظام الأسد الذي كان يواجه حالة من العزلة على المستوى العربي وعداء مع تركيا، كان بحاجة إلى انفتاح في محيطه الإقليمي، وكانت إيران فرصة مثالية، إذ أعلنت عن تقاربها معه في الموقف من القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي، ومن الجهة الثانية قاربت موقفه أيضاً في الموقف من جوارها الخليجي، وحيال العراق الذي كانت حدة الخلاف السوري معه في حدها الأقصى.
وكان لنظام الخميني مصلحة في علاقاته مع نظام الأسد في كسر التوجس العربي من الثورة الخمينية، وامتدادها مع بلد عربي محوري، يفتح نحو الجبهة الساخنة للصراع العربي - الإسرائيلي في لبنان؛ حيث يوجد أكبر ثاني تجمع شيعي في البلدان العربية، ترغب إيران في التسلل إلى نسيجه السياسي والاجتماعي.
لقد طور النظامان علاقات مصلحية سياسية واقتصادية واسعة في العشرين عاماً الأخيرة من حكم الأسد الأب، بينها نجاح إيران في إبراز انقسام الموقف العربي من حربها مع العراق (1980 - 1988) بوقوف نظام الأسد إلى جانبها، وتوفير مستوى من القبول الرسمي والشعبي في سوريا للعلاقة معها، وتسلل إيران إلى بعض قطاعات الاقتصاد السوري، وإعادة تحشيد شيعة لبنان من خلال «حزب الله» إلى جانبها، وتعزيز علاقات طهران مع الجماعات الفلسطينية، لا سيما حركتي «حماس» و«الجهاد»، وكانت دمشق بوابة دخول إيران فيما سبق كله، بينما توزعت مكاسب نظام الأسد من علاقاته على مستويين؛ أولهما سياسي، وفيه إضعاف العراق جاره الخطر، واستنزاف قدرات بلدان الخليج التي دعمته في الحرب مع إيران، وإعادة ترتيب خريطة الصراعات في المنطقة، وجعل إيران قوة مؤازرة لنظام الأسد فيها، أما الأبرز في المكاسب الاقتصادية، فكان حصول نظام الأسد على مساعدات مالية ونفطية من إيران، وتنشيط بعض قطاعات الاقتصاد السوري، من خلال العلاقة مع إيران، لا سيما في القطاعين السياحي والتجاري.
وسط اللوحة السابقة من علاقات دمشق – طهران، دخل قاسم سليماني عمق تلك العلاقات، بعد أن عيَّنه المرشد الإيراني علي خامنئي قائداً لـ«فيلق القدس» عام 1998، وصار مهندس العلاقات الإيرانية - السورية في عهد الأسد الابن، فدفعها نحو الأعمق باتجاهات متعددة، بحكم التجارب التي عاشها في طريقه إلى منصبه مسؤولاً ومنفذاً لسياسات إيران الخارجية، لا في علاقاتها مع الدول والأنظمة الحاكمة فقط، إنما أيضاً في العلاقة مع البنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يساعده في مهمته ضباط من أركان «فيلق القدس»، بينهم العميد حسين بور جعفري وآخرون قتل بعضهم معه، وبمساعدة أعوان لإيران في البلدان المختلفة، على نحو ما هو عليه قادة «الحشد الشعبي» في العراق و«حزب الله» في لبنان، ومنهم آخر أشخاص كان سليماني التقاهم في بيروت ودمشق وبغداد قبيل مقتله بقليل، بينهم حسن نصر الله، وأبو مهدي المهندس، وقد قتل الأخير معه.
إن الدور الأكبر والأخطر للجنرال سليماني في العلاقات الإيرانية - السورية، جاء بعد اندلاع ثورة السوريين في عام 2011، التي دفعت الإيرانيين للقيام بدور أكبر في سوريا للحفاظ على سلطة الأسد حليفهم، وتحويله إلى مجرد تابع لطهران من خلال سلسلة من السياسات، الأبرز فيها ثلاث:
الأولى: دخول إيران الكثيف إلى سوريا، الذي بدأ عملياً بإرسال خبراء ومستشارين من كل التخصصات، لا سيما المستشارين العسكريين والأمنيين، ودفع الميليشيات التابعة لإيران والمؤلفة من ميليشيات «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية وأخرى أفغانية، للمجيء إلى سوريا للقتال إلى جانب النظام، ثم جلب قوات من «الحرس الثوري» الإيراني للقتال إلى جانب النظام.
والثانية: الدخول على خط هندسة بنيان السلطة والمجتمع، بما يتناسب والمصلحة الإيرانية، وجاء في سياقها خطوات هي الأخطر في مستقبل العلاقات الإيرانية - السورية؛ لأنها تحول سوريا من طرف إلى تابع، وفي سياق هذه السياسة مضى سليماني في بناء سلطة ومجتمع موازيين لما هو قائم في سوريا.
فعلى صعيد السلطة، تم تنظيم حلقات متتابعة من أعلى السلطة إلى مستوى القيادات الميدانية، تشمل قيادات سياسية وعسكرية وأمنية، بالتوازي مع تنظيم حلقات من النخب الموالية لإيران والمتعاونة معها، كما نظمت مجموعات سكانية على صعيد قرى ومدن وأحياء في مدن كبرى، سكانها من الشيعة السوريين، وممن جرى تشييعهم في السنوات الأخيرة، وتم ترتيب أوضاعهم من الجوانب كافة، وتم تحويلهم إلى خلايا إيرانية صلبة محاطة بالميليشيات المسلحة التابعة لإيران، أو محكومة بتنظيم «حزب الله» السوري الذي يرعى الإيرانيون وجوده ونشاطه في سوريا. والثالثة: توسيع الإيرانيين حضورهم في الواقع السوري، عبر تمدد اقتصادي وثقافي، تتم فعالياته بصورة علنية أحياناً وسرية في أحيان أخرى، وبين مؤشرات التمدد الاقتصادي حضور الشركات ورجال الأعمال الإيرانيين في الأنشطة الاقتصادية، من سياحة وصناعة وتجارة، وأغلبها صار مغطى باتفاقيات رسمية بين إيران والسلطات السورية، وجزء منها صار حاضراً بفعل سياسة الأمر الواقع، كما يحدث في حركة شراء العقارات السكنية والتجارية، التي تجاوزت دمشق وريفها الجنوبي إلى محافظات أخرى، منها درعا ودير الزور، ويشمل هذا الخط من السياسات الإيرانية توسيع حركة بناء الحسينيات والمراكز الثقافية الإيرانية، وتعميم فصول تعليم اللغة الفارسية، وتعميم أنماط الطقوس والاحتفالات الفارسية التي تتم إقامتها بأشكال تتضمن تحدياً واستفزازاً لغالبية السوريين.
ولعلنا لا نحتاج إلى تأكيد القول بأن شخصاً مثل قاسم سليماني ما كان له أن يرسم سياسات نظامه في الداخل السوري بعيداً عن الطرفين الأكثر تأثيراً في مناطق سيطرة النظام، وهما روسيا وإسرائيل. وقد ظهرت بصمة الجنرال في هذا المجال من خلال سعيه لدفع الروس إلى دور أوسع في سوريا، عبر زيارة قام بها منتصف 2015 لإقناع الرئيس الروسي بوتين بالتدخل العسكري المباشر، ودعم نظام الأسد الذي كان مهدداً بالسقوط؛ حيث كان يسيطر على نحو عشرة في المائة من مساحة البلاد لا غير.
وترتب على هذه السياسة قبول إيران بثوابت السياسة الروسية، لا سيما علاقاتها القوية والمميزة مع إسرائيل، والتوافق مع مصالح الأخيرة في سوريا، مما جعل إيران وميليشياتها بما فيها «حزب الله»، تميل إلى السكوت عن سياسة إسرائيل، بما فيها العمليات الجوية ضد أهداف إيرانية وأخرى لـ«حزب الله»، وجعل الرد عليها لا يتجاوز التصريحات الإعلامية، والردود المحسوبة بعناية فائقة، رغم كل ما يقوله الملالي و«حزب الله» عن عدائهم لإسرائيل.
لقد ضبط قاسم سليماني توسعات وتناقضات سياسة إيران في سوريا، وهي مزية إشرافه وفريقه على تلك السياسة، التي قد لا يتوفر لها شخص مثله في المرحلة المقبلة لمتابعتها؛ خصوصاً أن القضية السورية مقبلة في وقت قريب على تغييرات، سيكون الحضور الإيراني في سوريا أهم مفاصلها.