فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

دروس التغلب على الانقسام الروسي

تصادفت مع العام الجديد 2020 ذكرى مرور مائة عام على الهجرة الجماعية لضباط وحدات الجيش الروسي الأبيض وجنوده، وبالأخص القوات المسلحة لجنوب روسيا، من شبه جزيرة القرم إلى إسطنبول، التي كانت تحمل آنذاك اسم القسطنطينية، بعد هزيمته أمام الجيش الأحمر.
كان هذا حدثاً مأساوياً في التاريخ الروسي الحديث. الحرب الأهلية التي قسمت شعب الإمبراطورية المنهارة نتيجة لثورتي فبراير (شباط) وأكتوبر (تشرين الأول) 1917، أودت بحياة كثير من الناس، وكسرت مصير كثير منهم. جزء من السكان المدنيين المتعاطفين مع الجيش الأبيض، فرَّ جنباً إلى جنب معه على سفن الأسطول الروسي إلى العاصمة التركية، ومن هناك إلى مدن أخرى في تركيا وإلى بلدان أخرى. كيف حدث هذا؟
استقال الجنرال أنطون دينيكين القائد الأعلى للقوات المسلحة لجنوب روسيا، وانتقل إلى إسطنبول قبل الهزيمة النهائية للحركة البيضاء المضادة للبلشفية في جنوب روسيا، في أبريل (نيسان) 1920. بات دينيكين يخشى على حياته بعد مقتل الضابط مستيسلاف خاروزين على يد نائبه الجنرال إيفان رومانوفسكي. خاروزين، بالمناسبة، كان مستشرقاً تركياً، وقد عمل في عام 1914 ضمن رحلة استكشافية أثرية في مصر، وهو ما جعل البريطانيين الذين ساعدوا الجيش الأبيض في شبه جزيرة القرم، يبحثون عن «أثر تركي» لعملية القتل. في أبريل كانت هناك سلطة مزدوجة في تركيا: حكومة السلطان في إسطنبول التي احتلها الحلفاء الغربيون، وحكومة برئاسة أتاتورك في أنقرة، تعاطف معها البلاشفة.
شغل الجنرال بيتر فرانغيل مكان دينيكين. بدأت، على وجه السرعة وعلى وقع الهزيمة الساحقة أمام الجيش الأحمر في نهاية الحرب الأهلية، إدارة أركان فرانغيل بإعداد الإجلاء على السفن الروسية من موانئ شبه جزيرة القرم إلى إسطنبول. غادر في الفترة من 13 إلى 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1920، عدد كبير من السفن: 126 سفينة على متنها نحو 150 ألف لاجئ، من بينهم نحو 50 ألف عسكري. صرخ فرانغيل قائلاً أمام جنوده الذين كانوا يأملون بسذاجة أن حكم البلاشفة سيسقط قريباً: «لم ينته الصراع». بعدها مرت موجة رهيبة من «الإرهاب الأحمر» بالقرم، بعد أن دخلها البلشفيون، آخر معقل للحركة البيضاء ضد البلشفية.
كان الطريق صعباً؛ حيث غرقت إحدى السفن؛ لكن الوضع كان أصعب في المهجر. جزء كبير من الناس بقي في مدن وجزر تركيا. لقد عاشوا في ظروف مزرية في المخيمات أو في التشرد، ومن ثم انتشروا في وقت لاحق في جميع أنحاء العالم. لذلك فإن الروس في الماضي عاشوا المصير نفسه للاجئين الذين يعيشون في المعسكرات التركية، من ضحايا الحرب الأهلية التي حلت بالسوريين اليوم. قام أحد ضباط اللاجئين من ذوي النفوذ بإرسال رسالة سرية إلى موسكو، اقترح فيها على القيادة السوفياتية بدء مفاوضات مع فرانغيل، لكي يقوم الأخير وبمساعدة من فيلقه الذي حافظ على إمكاناته، ببسط السيطرة على إسطنبول؛ لكن ردة فعل موسكو كانت سلبية.
في الوقت نفسه، غادر الجزء المتبقي من اللاجئين الروس (7 آلاف شخص، بينهم ألف مدني) إسطنبول مع سفن الأسطول، التي نُقلت في الفترة من 8 ديسمبر (كانون الأول) 1920 إلى فبراير 1921، بموافقة القيادة الفرنسية، إلى ميناء بنزرت التونسي. وهناك أيضاً واجهوا صعوبات جمة. فقد عاملت السلطات الاستعمارية الفرنسية اللاجئين معاملة سيئة. في عام 1924 تم إيقاف العاملين بالأسطول البحري وتحويلهم إلى الشاطئ، وضم جزء من السفن إلى الأسطول التجاري الفرنسي، وسُلم الجزء الآخر إلى مالكي السفن في إيطاليا ومالطا. وتم، بعد تطبيع العلاقات بين فرنسا والاتحاد السوفياتي، الاتفاق على إعادة جزء كبير من السفن إلى موسكو؛ لكن الفرنسيين تهربوا من تنفيذ الاتفاقية، وبيعت السفن المتبقية في ميناء بنزرت للخردة.
تمكن بعض اللاجئين من الوصول إلى فرنسا نفسها، وانتقل آخرون إلى مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين (يوغوسلافيا المستقبلية) وبلغاريا ومالطا وقبرص ومصر، بما في ذلك فرانغيل نفسه، الذي انتقل مع مقره في عام 1922 (حيث عاش منذ عام 1927 في بروكسل وتوفي فيها، وفي وقت لاحق نقل رفاته إلى بلغراد. تنقل الجنرال دينيكين بين الدول الأوروبية، وكتب عدة مجلدات عن «قصة الفتنة الروسية» سرد فيها أحداث الحرب الأهلية. ومنذ عام 1926 عاش في باريس وكتب رواية «حياتي» التي سرد فيها سيرته الذاتية.
ترك كثير من المهاجرين الروس الذين استقروا في الشرق الأوسط، وخصوصاً المثقفين، علامة مشرقة في بلدان إقامتهم وساهموا في تطورها. حصل الأطباء الروس والرسامون والكتاب والمهندسون على الشهرة في كل مكان، في إسطنبول وتونس وبيروت والقاهرة وفي مدن أخرى. آخر مهاجر روسي، الأميرة أناستاسيا شيرينسكايا، التي تركت شبه جزيرة القرم مع والدها وهي في الثامنة من عمرها، قضت طوال حياتها في تونس، لتصبح زعيمة الجالية الروسية، وتوفيت هناك عام 2009 عن عمر يناهز 97.
خلال الحرب العالمية الثانية، انقسم المهجر الروسي الأبيض إلى قسمين: منهم من اتخذ مواقف وطنية، عارض فيها اجتياح ألمانيا النازية للاتحاد السوفياتي؛ حيث قاتل كثير من المهاجرين الروس في صفوف قوات الحلفاء ضد القوات النازية في شمال أفريقيا، وهناك أسماء روسية من بين الذين دفنوا في العلمين. لكن كان هناك من تعاون مع النازيين وحتى انضم إلى صفوف الجيش النازي. وقد نال هؤلاء في نهاية الحرب وبعدها العقاب العادل. على سبيل المثال، سلم البريطانيون الجنرال السابق للجيش الأبيض في الجنوب أندريه شكورو، الذي أصبح عند الألمان زعيم جماعة «جروبنفهر» (إس إس)، بعد أن أسروه سلموه إلى القيادة السوفياتية، وتم شنقه في موسكو في عام 1947 بناءً على حكم المحكمة.
لقد اتخذ الجنرال دينيكين مواقف وطنية، في حين أنه لم يتخلَّ عن الرفض القاطع للنظام السوفياتي. ورفض كل مقترحات القيادة الألمانية للتعاون. لقد أرسل، على نفقته الخاصة، في عام 1943 عربة قطار من المواد الطبية إلى الجيش الأحمر، والتي تم قبولها في الاتحاد السوفياتي دون الكشف عن اسم المتبرع. انتقل في عام 1945 إلى الولايات المتحدة؛ حيث توفي في آن آربر في عام 1947.
قرَّرت روسيا الحديثة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي علاج جروح الانقسام الآيديولوجي الوطني المأساوي؛ حيث يحصل الأعضاء السابقون في الحركة البيضاء المناهضة للبلاشفة وأحفادهم والمهاجرون ممن لم يلطخوا بالتعاون مع النازية، على حق أن يصبحوا من مواطني روسيا، والعودة إليها وزيارتها، وتلقي الدعم من السلطات. أخذت أسماء كثير من الأشخاص الجديرين، بمن فيهم أولئك الذين شاركوا في الكفاح المسلح ضد الجيش الأحمر، مكانها في التاريخ المأساوي قبل مائة عام؛ حيث لم يكن هناك محقون ومذنبون؛ بل كان هناك أشخاص منقسمون بشكل مأساوي. تم بقرار من الرئيس فلاديمير بوتين في عام 2005، نقل رفات الجنرال دينيكين وزوجته إلى جانب رفات الفيلسوف المهاجر الروسي إيفان إيلين وزوجته، من الولايات المتحدة إلى موسكو؛ حيث دفن في دير دونسكوي، وفي عام 2009 دفع بوتين على نفقته الخاصة تكاليف تجهيز شواهد القبور الجديدة لهم.
إن التغلب على الانقسام الروسي الذي أصبح أيضاً جزءاً من تاريخ بلدان الشرق الأوسط، يتيح لنا استخلاص دروس مفيدة لكثيرين. الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، قال في خطاب ألقاه مؤخراً: «في غضون سنتين أو ثلاث، أو كحد أقصى خمس سنوات، سيتغير الشرق الأوسط؛ بحيث يكون من المستحيل التعرف عليه». يبقى الأمل أن يكون من بين التغييرات تغلب العالم العربي على التصدعات القومية والصراعات التي تنهش جسده، تماماً كما فعلت روسيا، وإن لم يكن بالسرعة نفسها.