د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

فرصة الجيل الخامس

لم يكن مفهوم انتقال البيانات الضخمة عبر الأثير شائعاً عند بدايات إطلاق شبكات الجيل الرابع قبل أقل من 10 سنوات، إلا أن انتشار هذه الشبكات أحدث ثورة في مفاهيم قطاع الاتصالات والمعلومات، فكان لشبكات الجيل الرابع دور جوهري في ثورة الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي والتجارة الإلكترونية وغيرها، وحتى مع وجود الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي قبل انتشار شبكات الجيل الرابع، فإن وصول هذه المواقع إلى الهواتف الذكية لم يكن ليكون بهذه الفاعلية لولا وجود شبكات تيسر انتقال البيانات بشكل سريع، خاصة مع اعتماد الكثير من هذه المواقع على الوسائط. وحتى تصل هذه الشبكات إلى هذا المستوى، أنفق مشغلو الشبكات ما يزيد على تريليون دولار لتطوير البنية التحتية للشبكات بين عامي 2012 و2018. وفي عام 2017 أصبحت تقنيات وخدمات الاتصالات تشكل أكثر من 4.5 في المائة من إجمالي الناتج القومي العالمي بما يزيد على 3.5 تريليون دولار.
والآن مع انطلاق شبكات الجيل الخامس، يُتوقع أن تحدث ثورة أخرى في هذا المجال، وليتم استيعاب حجم هذه الثورة المتوقعة، يكفي معرفة أن السرعات التي توفرها شبكات الجيل الخامس تصل إلى 10 أضعاف مثيلتها من الجيل الرابع، وأن معدل التأخير في إشارة شبكة الجيل الخامس لا تزيد على جزء واحد من الثانية مقابل 50 جزءاً من الثانية للجيل الرابع. هذا الفارق الهائل بين الشبكتين، يؤهل شبكات الجيل الخامس لخدمة صناعات جديدة واعدة مثل الأجهزة المرتبطة بإنترنت الأشياء والروبوت وغيرها. والإضافة التي تقدمها سرعة شبكة الجيل الخامس تجعل الكثير من التقنيات الصناعية في نطاق الممكن، فعلى سبيل المثال وفي قطاع الصحة، حلم الكثير من الأطباء في السابق بإجراء العمليات الجراحية عن بعد عن طريق الروبوت، ولكن عدم وجود إنترنت لحظي جعل هذه التقنية غير مجدية، والآن ومع وجود إنترنت خارق، قد يستطيع الأطباء إجراء هذه العمليات. هذا الأمر لا ينطبق على قطاع الصحة وحده، فالقطاع اللوجيستي كذلك أحد أكثر القطاعات تأثراً بشبكات الجيل الخامس، ولعل تأثيرها على أداء السيارات ذاتية القيادة قد يكون الأكبر في هذا القطاع. ونتيجة لهذا سوف ينشط القطاع الصناعي المرتبط بهذه الصناعات بشكل فعال بكل مراحله من سلاسل الإمداد وغيرها.
إضافة إلى ذلك، ومع السرعة المتوقعة للشبكات، سوف تزيد أهمية الخدمات السحابية وما فيها من تحليل البيانات الضخمة التي - إن تكاملت مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي - سوف تسرع من وتيرة اتخاذ القرارات في نطاق الأعمال وغيره. لذلك فإن التأمل في التغير الممكن حدوثه في كثير من القطاعات بدخول عامل قوي مثل شبكات الجيل الخامس، يبرر النزاع الحاصل بين العالم الغربي والصين في السيطرة على سوق هذه الشبكات. وهذا النزاع لا يأتي فقط على مستوى الصناعات المتأثرة بالجيل الخامس، بل حتى في الاستثمارات التي تسبقه، فمع تفوق شركة هواوي الصينية في إنشاء شبكات الجيل الخامس، سوف تعاني الشركات الغربية في الحصول على عقود إنشاء هذه الشبكات، التي سوف تصل مبالغها إلى مئات المليارات. وقد ذكرت دراسة IHS Market أنه بحلول عام 2035، سوف يضيف الجيل الخامس أكثر من 12 تريليون دولار من النشاطات الاقتصادية على مستوى العالم، موفراً أكثر من 22 مليون وظيفة، وقد تصل العوائد الضريبة التي سيضيفها الجيل الخامس خلال هذه الفترة إلى 600 مليار دولار.
وبكل الأحوال فإن دخول شبكات الجيل الخامس لا بد أن يلقي بظلاله على الاقتصاد، فكما كان الجيل الرابع عاملاً أساسياً في تطور الاقتصادات من خلال الرقمنة وزيادة الإنتاجية وتخفيف التكلفة، فإن الجيل الخامس قد يكون أثره أكبر على الاقتصاد من خلال كونه الوسيلة التي تجعل استخدام التقنيات المستقبلية ممكناً. ولكن تأثيره على الاقتصاد يرتبط بعوامل كثيرة مثل سرعة تجهيز الشبكات للوصول إلى الأسبقية في التنافس العالمي، ومدى ابتكار الشركات وسرعة استثمارها للتقنيات التي سيوفرها الجيل الخامس، والبدء في تطوير وابتكار المنتجات التي تستغله. وبكل تأكيد سرعة سن وتشريع القوانين المرتبطة بالجيل الخامس التي قد تجعل استثماره ممكناً، فعلى سبيل المثال ومع الانتشار المتوقع للخدمات السحابية، فإن التشريعات المرتبطة بحماية الخصوصية والأمن السيبراني لا بد لها وأن تتوافق مع الخدمات الممكن تقديمها في الجيل الخامس. وبعد ذلك كله، فإن اقتناص الفرص التي ستوفرها هذه الخدمة لن يحدث إلا لمن يكون مستعداً لها على جميع الأصعدة.