حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لبنان: الثورة في مواجهة البلطجة

احتلت ثورة الكرامة بعد 64 يوماً على بدئها وجدان المواطنين اللبنانيين، وغيّرت كثيراً من العادات بعدما أنزلت إلى الساحات أكثرية فئات الشعب اللبناني وشرائحه، بمن فيهم كثرٌ ممن لم يكن يخطر على بالهم أنه سيأتي وقت يعدّون فيه أَولى أولوياتهم الموعد اليومي للتظاهر، ينطلقون من البيوت وقد تجهزوا بالعَلَم وعبوة ماء، والبعض تزود بقناع متواضع للحماية من الغاز المسيل للدموع، والكل يدندن: «كلن يعني كلن»... ودوماً تتقدم الطالبات والنساء الصفوف في محاولة لإقامة طوق عازل بين القوى الأمنية والمظاهرة.
ورغم الظلامة الجماعية التي أُلحقت بالمواطنين، وتحميل الفئات الأقل دخلاً أوزاراً لا طاقة لهم بها، خصوصاً لجهة ازدياد أعداد المؤسسات التي أقفلت أبوابها وفصلت موظفيها، وتفاقم البطالة التي تقترب من نسبة 50 في المائة من إجمالي اليد العاملة، فإن الساحات استعادت الحماس والفرح؛ والأهم الأمل. الأمل بالخلاص من المزرعة - الطائفية المسماة دولة واستعادة الدولة المدنية؛ دولة الدستور والقانون والعدالة والشفافية... أمل زاد من ثقة المواطن بنفسه، فاكتشف أنه لم يعد يهاب لا الإصبع المرفوع، ولا التهديد بالحرب الأهلية، أو إعادة تأجيج الصراعات الطائفية... ولأن الثورة بدت في عيون الناس الظاهرة الأشمل والأقوى والأنصع من كل التجارب التي عرفها البلد، خصوصاً بعد سقوط مزاعم التمويل الخارجي، وانكشاف ضحالة تهم العمالة والتآمر مع السفارات، وسقوط التهديد بالعودة إلى الحرب الأهلية، وتكشّف الكثير عن أدوار الأحزاب الطائفية المسؤولة عن الانهيار العام، والتي استناداً إلى مواقفهم المعلنة والاتهامات التي يتبادلونها ارتكبت هذه الأحزاب دون انقطاع السطو المكشوف على المال العام! فكان خطاب الأمين العام الأشهر في 13 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، يوم بدا ارتباك الحكم في ذروته ومعه العجز العام عن القيام بأي خطوة في مواجهة الانهيارات العامة، وبالأخص الكارثة الاجتماعية الزاحفة، فأطلق مرحلة جديدة من المواجهة مع الثورة السلمية اللاعنفية... بدا خطابه أشبه بتكليف لبدء حملة مضادة عنوانها إخراج المعتصمين السلميين وإنهاء اعتصام الساحات، بعدما حمّل الثورة الكثير مما وصل إليه البلد، وصولاً إلى الزعم بأن مسيرة البلد كانت تتقدم قبل 16 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وكانت الحكومة تعدّ لإصلاحات فجاء «17 أكتوبر» ليقطع المسار «الظافر»!
لا غرابة، فـ«حزب الله» بدا مرتبكاً حيال الحيّز الذي باتت تشغله الثورة، وقلقاً أمام الدعم الشعبي الواسع لمطلبها بحكومة انتقالية من مستقلين برئيسها وأعضائها، توحي بالثقة للداخل والخارج، وتساهم في إجراءات لفرملة الانهيار، وتؤمّن استقلالية القضاء لاستعادة حقوق الناس المنهوبة، ووضع قانون انتخابات متوافق مع الدستور يضمن عدالة التمثيل لإعادة تكوين السلطة. وبهذا السياق انتزعت الثورة دعم المجموعة الدولية الداعمة للبنان، فحثّ «مؤتمر باريس» على تشكيل حكومة من مستقلين نظيفة الكفّ توحي بالثقة وقادرة على القيام بالإصلاحات، فكان الرد، بعدما عجزوا حتى عن التوافق على إجراء استشارات نيابية ملزمة أساساً، استعجال «حزب الله» تزخيم أعمال البلطجة التي تم صدّها في ليلتَي 14 و15 من الشهر الحالي، فكانت الغزوة الكبرى ليلة 16 - 17 ديسمبر الحالي، وهي الغزوة رقم «15» على التوالي، وشملت بيروت ووصلت إلى صيدا والنبطية وكفر رمان وبعلبك والفاكهة. وباختصار أراد نصر الله القول للبنانيين: «الأمر لي! نحكمكم كما نشاء أو...!».
اليوم يعيش لبنان انقساماً عمودياً بين ساحات وحّدت البلد، وأطلقت ثورة عميقة هي الفرح الآتي وكل الهواء النظيف المعبّر عن غنى التنوع، الذي عزل الطبقة السياسية المتهمة بالفساد، فكان السقوط المدوّي لتلك القوالب الجامدة والحدود التي أرادت القوى الطائفية إسباغها على اللبنانيين ولبنان... ثورة هي جزء من الموجة الثانية من النهوض الشعبي العارم كما في السودان والجزائر والعراق. وهي موجة وضعت أكثرية لبنانية موصوفة في مواجهة مع بلطجة تحالف قوى الماضي المفكك، رغم قوة الدويلة التي باتت بعد ثورة «17 أكتوبر» المدافع الشرس عن نظام المحاصصة الطائفي، والجهة التي ترعى هذا النظام وتديره وتحدد الأدوار والأحجام والحصص من استباحة المال العام، وهي الحامي للاقتصاد الأسود الذي يسلب ليس أقل من ثلث واردات الخزينة.
إنها لحظة الحقيقة... لم يكن يوماً هدف الثوار قطع الطرقات، كما لم يكن الهدف التجمع في الساحات... كلها وسائل مرحلية، أسقطت حكومة، وفرضت شطب كل الضرائب من موازنة عام 2020، وأقفلت مرتين البرلمان المزوّر إرادة الناخبين، وأبعدت عن الكرسي الثالثة أسماء متهمة بالفساد، وأثبتت للقاصي والداني أن مطالب اللبنانيين يستحيل تحقيقها دون تفكيك نظام المحاصصة الطائفي. وفي لحظة وضعت الثورة كل القوى الطائفية في قفص الاتهام: «كلن يعني كلن»... فها هو سعد الحريري الذي وعد يوماً بـ900 ألف وظيفة (!!) يلتحق بالثنائي «أمل» و«حزب الله» ويردد معزوفة عن دوره في الإنقاذ (...). أما الدكتور جعجع الذي تحدث عن ثورة بدأها منذ زمان في مجلس الوزراء وتوّجها طبعاً بخوض المعركة ضد نقيب الثورة ملحم خلف وهو لم يغادر تسوية عام 2016، وجبران باسيل يعلن أنه قرر الانتقال إلى صفوف الثورة بعدما كان يقدم نفسه صانعَ الحكومات، ووليد جنبلاط كأنه خارج الجاذبية... كل ذلك لأن نظام المحاصصة يترنح، فقرر «حزب الله» أن يأخذ بصدره مهمة العودة بالبلد إلى ما قبل «17 أكتوبر»، بوهم أن تحطيم بعض خيام الاعتصام سيمكّنه من إعادة استنساخ الحكومة التي أسقطها الشارع، وتعيد إنتاج السلطة الفاسدة إياها لتحميل الأغلبية نتائج الأزمة.
كل مساحيق التجميل لم تعد كافية لتغطية البشاعات، ورغم امتلاكهم أدوات عنف ميليشياوية وغيرها، فإنهم الأضعف، لأنه ما من جهة تحمل مشروعاً إنقاذياً فيما كارثة البطالة غطت جغرافيا البلد، والجوع الزاحف علامة مسجلة لحكمهم الذي جعل عدداً غير قليل من المواطنين ينتحرون نتيجة العوز والفقر والمهانة، وصواريخ «حزب الله» لن تؤمّن أموالاً في آلات السحب، ولن تعيد الودائع لأصحابها، ولن توفر العمل لبطالة تقترب نسبتها من 50 في المائة من القوة العاملة. إنها لحظة الانتقال في المواجهة إلى مستوى سياسي موحد الرؤية والأهداف، قبل أن يذهبوا إلى استنساخ اتفاقٍ ما يذر الرماد في العيون ويبقي الأزمة ويأخذ البلد إلى التلاشي.