بعد عام من حالة تأزم داخل ويستمنستر أحبطت محاولات المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروبي بشكل ودي، منح الناخبون البريطانيون بوريس جونسون أغلبية قوية كي ينجز ذلك. وربما يكونون بذلك قد طرحوا أمام بروكسل منافساً جديداً قوياً على أعتاب أوروبا.
ويبدو هذا موقفاً ليس بالهين بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي يمضي في طريقه نحو خسارة شريك اقتصادي ودفاعي مهم يكافئ 14% من إجمالي الناتج الداخلي للتكتل بأكمله. وبالطبع، كان يمكن أن يصبح الوضع أسوأ من ذلك بكثير؛ فبعد تجنب إقرار «بريكست» فوضوي دونما اتفاق، ظلت الدول الأعضاء الـ27 المتبقية موحدة وتحققت أهداف تفاوضية محورية، منها التزام المملكة المتحدة بواجباتها المالية وضمان حقوق مواطني دول الاتحاد الأوروبي وتجنب إقرار حدود آيرلندية صلبة.
ورغم ذلك، من المحتمل أن تكون أي فترة تنفس للصعداء قصيرة الأجل، فالاتحاد الأوروبي يتعين عليه إعادة بناء علاقاته مع دولة جارة تستضيف المركز الأول للخدمات المالية الخاصة بالاتحاد، وتشكل 40% من قوته العسكرية وتنجز تعاملات تجارية مع الكتلة الأوروبية سنوياً بقيمة 640 مليار جنيه إسترليني (853 مليار دولار). ويتمثل الجزء السهل من المهمة في إخراج البريطانيين من الاتحاد، أما الجزء الصعب فيتركز في تحديد إلى أي مدى سيسمح لهم بالعودة.
لو كان الأمر بيد جونسون، لكان سهلاً، فهو يدعو لإبرام اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي يتوقع أن يجري التوقيع عليه في غضون 11 شهراً ويقول إنه يضمن حدوث القدر الأدنى من التخبط بسبب الانفصال. إلا ان هذا الاتفاق لن يعوض تماماً التأثير المالي المترتب على الرحيل عن الاتحاد الأوروبي. وفي تقدير لمؤسسة «تشينجينغ يوروب» الفكرية، فإن المملكة المتحدة سيتضرر اقتصادها جراء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بما يتراوح بين 1.1% و2.6% من إجمالي الناتج الداخلي. ومع هذا، يظل ذلك أفضل من تداعيات الانسحاب من دون اتفاق.
جدير بالذكر أن الرئيس الجديد لمجلس الاتحاد الأوروبي، تشارلز ميشيل كتب عبر تويتر أنه «سنتفاوض حول اتفاق تجاري مستقبلي يضمن ساحة تنافسية متكافئة حقاً». إلا أنه لم يوضح ماهية هذا الميدان التنافسي المتكافئ، وإن كان المؤكد أن الاتحاد الأوروبي سيعمل على ضمان ربط إمكانية دخول أسواقه بالالتزام بقواعده.
ومن الممكن تماماً أن يتم إقرار مستوى صفري من التعريفات والحصص بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد «البريكست»، لكن هذا سيتحقق فقط مع إقرار مستوى صفري من الإغراق، حسبما أكد كبير مفاوضي «البريكست» من جانب الاتحاد الأوروبي، ميشيل بارنيير. ويعني ذلك أن بروكسل لن تفتح أسواقها أمام لندن دون أن تضمن التزام الأخيرة بذات القواعد التي تلتزم بها باريس وفرانكفورت ودبلن.
ومن غير المحتمل أن تكون هذه المحادثات سهلة. ومن غير الواضح أية شخصية تفاوضية سيختارها جونسون. يعتقد المتفائلون أن هذه الأغلبية القوية التي حصل عليها جونسون ستدفعه نحو اتخاذ توجه أكثر لطفاً لأنه لن يكون مديناً بدرجة كبيرة لأنصار «البريكست» المتشددين وسيتعين عليه ضمان مصالح الناخبين من العمال الذين نجح في اجتذابهم بعيداً عن حزب العمال.
ومع هذا يبقى من الممكن أن يدفع هذا التفويض الانتخابي القوي لمبدأ «لننجز البريكست» جونسون لاتخاذ توجه صارم، خاصة أن الرئيس ترمب الذي فرض تعريفات تجارية ضد الاتحاد الأوروبي، يقف إلى صفه. كما أن الرئيس الفرنسي ماكرون يبدو حريصاً على تعزيز العلاقات الثنائية مع المملكة المتحدة وحماية المصايد السمكية الفرنسية وتعزيز القوة العسكرية البريطانية. أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فربما ترغب في تجنب حدوث أزمة تهدد اقتصاد بلادها المتداعي.
ومع ذلك سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن الاتحاد الأوروبي سيتجنب خوض طريق شاق، خاصة أن التوجه الملتزم بحرفية القواعد الذي انتهجه منذ استفتاء «البريكست» عام 2016 خدمه بصورة جيدة - مثلما اتضح من التنازلات المؤلمة التي قدمها جونسون في اتفاق الانسحاب. ومثلما كان الحال دوماً، سيبقى الهدف الأكبر لبروكسل حماية السوق الموحدة والقواعد الحاكمة لها. إلا أن هذا لا يمنع بالضرورة إمكانية بناء علاقة مثمرة مع المملكة المتحدة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»