وهل يمكن إجراء أي تسوية حقيقية لهذا النزاع بعد الانتفاضات العربية.. أم أن هذه الانتفاضات فرضت واقعا جديدا؟
TT

العِراق ..في تأسيس “الدَّعوة الإسلامية” هذه روايات الدُّعاة الأوائل

بين يوم وآخر، يطل علينا أحد الأُخوة بردٍ أو تصريح على ما ورد في كتاب “أمالي السَّيد طالب الرِّفاعي” (دار مدارك 2012)، والذي حررناه بعد لقاءات مطولة معه. ولم يكن أي غرض مِن إنجاز هذا الكتاب سوى أن الرَّجل لديه تاريخ، وهو مثلما قال ونقلتُ عنه: “إنه صاحب دراية لا رواية”، والدِّراية بطبيعة الحال أصدق مِن الرِّواية. قامت الدُّنيا ولم تقعد عندما قال السَّيد، إن حزب الدعوة قد تأسس في يوليو (تموز) 1959 أي بعد ثورة 14 تموز بعام كامل، والرِّفاعي هو أحد الثَّلاثة الأوائل في تشكيل هذا الحزب مع: مهدي الحكيم ومحمد باقر الصَّدر. وأكدها لي أكثر من شخصية من جماعة الإخوان المسلمين العراقيين، ويومها كانوا يشجعون على تأسيس حزب شيعي إسلامي رديف، حتى كان البعض أطلق على جماعة حزب الدعوة – من خصومهم – بفرع الإخوان المسلمين الشِّيعة.

أما السيد محمد باقر الصَّدر فقد أتى به الاثنان إلى الحزب قُبيل إعلانه، وله الفضل في تسميته “الدَّعوة الإسلامية”، وذلك عند كتابة البيانات الأولى وقد مُضيت بهذا الاسم، تمييزاً عن الحزب الإسلامي العراقي. الضجة قامت، لأن الجيل الثَّاني وما بعده يريدون للحزب تاريخ آخر، كي يتجنبوا أن يكون التأسيس كردة فعل للمد اليساري بالعِراق، وهناك مَن قال: بأن ما كتبناه اعتمد على رواية طالب الرِّفاعي فقط، مع أننا اعتمدنا رواية الرِّفاعي، قبل اللقاء به والعمل في كتاب الأمالي، اقتباساً عما نشره على موقعه في الانترنت العام 2008، بينما عملنا في الأمالي بدأ نهاية 2011 واكتمل 2012.
هنا نأتي بروايات الأوائل الآخرين، وكلهم سبقوا فلانا وفلانا، مِن الذين يريدون أن يكون تأسيس الحزب مقترناً بالمولد النَّبوي، والعام 1957 أي في ظل العهد الملكي (1921-1958).

قال أحد نشطاء الحزب القدامى وأمينه العام في ما بعد الشيخ محمد مهدي الآصفي، الذي ما زال على قيد الحياة ويعيش بالنَّجف، ومِن الخلصاء للولي الفقيه: “يومئذ كانت الساحة الإسلامية في العراق تموج بالفتن. وكان من أبرز هذه الفتن التحدي الصارخ للمدّ الأحمر الماركسي في العراق. وبسبب الفراغات الثقافية والسِّياسية والتنظيمية الكبيرة الواسعة في ساحتنا في العراق، تمكّن المدّ الأحمر الماركسي من التمدّد في أوساط الشباب والعمال والفلاحين في العراق”.

وأضاف: “وكان هذا التمدد وما ارتكبه الحزب الشّيوعي من حماقات وطيش في العراق، سبباً لأن تقوم المرجعية والحوزة العلمية وعلماء العراق وخطباء المنبر الحسيني والمثقفون الإسلاميون، بإعادة النظر في مواطن الضعف في عملنا وساحتنا. وربَّ ضارة نافعة، فهبَّت المرجعية والحوزة العلمية ومَنْ يحمل معهم هموم العمل والساحة، لمواجهة هذه الحالة الجديدة، وملء الفراغات في العمل وفي الساحة، فكانت جماعة العلماء، وكانت الحركة الإسلامية، وكانت مكتبات الإمام الحكيم، والأضواء، والإصدارات الإسلامية العديدة، واللقاءات والاحتفالات الحاشدة بالجماهير”(موقع الشَّيخ الآصفي الرَّسمي). قولوا لنا متى كان المد الماركسي أليس بعد 1958 وتعاظم العام 1959 أم هناك شك في ذلك؟
كذلك نجد الشَّيخ عبد الهادي الفضلي وهو مِن الأوائل في الحزب، ومِن الذين شاركوا مع الرِّفاعي في أول انشقاق، يمكن القول إنه كان بين أصحاب العمائم والأفندية، وهو مازال على قيد الحياة أيضاً، يرى أن التحرك صار بعد 1958 وبتأثير المد الشّيوعي حسب عبارته:

إن أحد الأسباب المهمة في انطلاق الحركة الإسلامية النَّجفية بجميع أبعادها، الفردية والثقافية والسِّياسية والأدبية، كان الطِّغيان الشِّيوعي في العراق، والتَّحدي الذي خلقه الفكر الشِّيوعي الجديد، بما يملكه مِن فكر آيديولوجي قائم على مبادئ ونظريات وغايات، وله تجارب ناجحة في ثورات الشُّعوب، والأهم مِن ذلك حركته السِّياسية والفكرية متمثلة بالحزب الشِّيوعي تمتلك تنظيماً عالمياً عالياً

(الفضلي، قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي)
ثم يضيف: “وكانت الانطلاقة الأولى في النَّجف عبر تأسيس جماعة العلماء، التي يشرف عليها السَّيد الحكيم في عام 1959″(المصدر نفسه). ومعلوم أن جماعة العلماء سبقت تأسيس حزب الدَّعوة.

وأشار الشَّيخ الفضلي إلى أن الاجتماع التَّأسيسي كان بكربلاء، وأُطلق عليه في بداية الأمر اسم “الحزب الإسلامي”، وبعد عام واحد تقريباً تبدل إلى اسم “حزب الدعوة الإسلامية” “، إذْ قامت جماعة الإخوان المسلمين بتقديم طلب رسمي لتأسيس حزب باسم الحزب الإسلامي، وتمت الموافقة مِن الحكومة العراقية، وهو ما دعا الصَّدر، ومؤسسي الحزب الإسلامي الشِّيعي إلى تغيير اسمه”، أي إلى حزب الدَّعوة. ومعنى هذا أن تاريخ تأسيس الحزب الإسلامي (الدعوة) يعود إلى العام 1959، ذلك إذا علمنا أن الإخوان المسلمين حصلوا على إجازة حزبهم العام 1960، والتأسيس كان قبل ذلك.

كذلك يحدد السَّيد محمد مهدي الحكيم (اغتيل 1988)، وهو المعني بالتَّأسيس الأول، أنه يرجع الشروع بالتَّأسيس إلى ما بعد 14 تموز 1958. قال: “فبعد 14 تموز كانت الاتصالات والجلسات تجري مع السَّيد الشهيد الصَّدر حول تأسيس حزب” (الحكيم، من مذكرات العلامة الشهيد مهدي الحكيم). إن القول بتأسيس الحزب بردة فعل قد لا يرتضيها الكثيرون، لذا لعلَّهم جعلوا من رأي أو فكرة كتاريخ لتأسيس الحزب، بينما ما حدث بعد تموز كان كافياً أن يؤسس أحزاباً لا حزباً إسلامياً واحداً.
هذا وعندما سُئل مسؤول منظمة العمل الإسلامية (جماعة الشِّيرازي) السيَّد محمد تقي المُدرسي، وما زال على قيد الحياة، عن أُصول الحركة الإسلامية بالعراق، نجده يحيل وجودها إلى العهد الملكي، في حالة الإخوان المسلمين وحزب التحرير، أي الإسلام السِّياسي السُّنِّي، وهذا صحيح تماماً، ثم مِن بعد ذلك حركة جماعة العلماء بالنَّجف، وقد ثبت أن هذه الجماعة ظهرت بعد الثورة (1958 كاعتراض على النشاط الشيوعي، مثلما تحدث السَّيد محمد مهدي الحكيم ، وجاء في مذكراته، ص 19-20).

ثم حركة المبلغين بكربلاء، لكن وجود الأحزاب حصل بعد ثورة 14 تموز 1958، و”بشكل أكبر بعد صعود حزب البعث اليميني إلى سدة الحكم”(17 تموز 1968)، وهو تأكيد آخر على أن تاريخ تأسيس حزب الدَّعوة بعد الثورة (المدرسي، الانتفاضة الشَّعبية في العراق). بهذا لم نكن قد اعتمدنا رواية السَّيد طالب الرِّفاعي بمفردها، على الرُّغم مِن أنه صاحب دراية لا رواية، مثلما تقدم، وكذلك الذين ذكرتُ، وعلى وجه الخصوص، السَّيد الحكيم أنه صاحب دراية أيضاً.

سيطبع كتاب “أمالي السَّيد طالب الرِّفاعي” الطَّبعة الثَّالثة، وهنا أود الإشارة إلى أن عددا مِن الأخطاء والتصحيف حصل خلال عملية الطبع في طبعتيه الأولى والثَّانية، كخطأ في نسبة مدينة مثلاً: قضاء الحمزة الشَّرقي التابع لمحافظة الديوانية وردت خطأً العِمارة، وأن قرية آل بدير تابعة للمحافظة المذكورة وردت تابعة إلى الناصرية، وان الخلافات بين أسرة آل الحكيم جاءت بسبب المرجعية، وهي بسبب خلافات عائلية، وأخطاء في بعض الأسماء، صُححت في الطبعة الثَّالثة، وبالاتفاق مع السَّيد الرِّفاعي.

وتبقى أمالي هذا الرَّجل، التي استغرقت الأربعمائة صفحة، تاريخا حيّا للحركة الإسلامية وللواقع السِّياسي المعاش آنذاك، وكان أحد النَّاشطين فيه، ولم يتأخر الرِّفاعي مِن تقديم النَّقد لتلك المرحلة ولجيله، لكن بالتأكيد أن هذه الصَّفحات لا تعجب الكثيرين، الذين يريدون كتابة تاريخ خاص بهم، وهم أحرار في ذلك.
أما ما يخص الفقرة التي جاءت الردود عليها، والخاصة بتاريخ تأسيس حزب الدَّعوة، فهذا لا يجادل فيه السَّيد الرِّفاعي ولا السَّيد مهدي الحكيم لأنهما مؤسسان، وكفى. أما تعليق السيد الرِّفاعي على مَن كتبوا خلاف هذه الرواية،فإنهم لم يكونوا آنذاك داخل الحزب أبداً. نكتفي بالرد على مَن كتب في هذه النِّقطة بالذات، أما مَن كتب بضغينة وأكاذيب واتهامات عارية عن الصحة، فلا نجده يستحق الرَّد ولا الذِّكر، ونترفع عنه. فالنَّاس مثلما “في ما يعشقون مذاهب”، هم أيضاً “في ما يكرهون مذاهب”!