وهل يمكن إجراء أي تسوية حقيقية لهذا النزاع بعد الانتفاضات العربية.. أم أن هذه الانتفاضات فرضت واقعا جديدا؟
TT

حديث طارق عزيز.. علامَ افتعال الضَّجة!

مَن عاش عقدي الثمانينيات والتِّسعينيات، مِن القرن الماضي وذاكرته مازالت حيَّة، وضميره ظل حيَّاً أيضاً، أو ممن بدلَ طريقة تفكيره فيما بعد، سيدلي بدلوه على تورط كتاب وصحافيين في مأساتنا العراقية، مِن الذين أسسوا مجلات ومنابر إعلامية لعقت من دماء العراقيين، وصنفوا كتباً في خلق الدكتاتورية، وكيف حولت الضحايا إلى متهمين، وأموال العِراق كانت تدر عليهم بلا حِساب، وإذا كانت الذاكرة معطوبة فالحوادث تتكلم.
فالرئيس العراقي السابق صدام حسين(اعدم 2006) لم يخلق نفسه دكتاتوراً ولا يجازف بما جازف به من دون النَّواعم والهداهد الذين كانوا يهللون له، كي يُحرر لهم فلسطين، بينما هو يتربعون على المنابر، التي يصرف عليها المال العراقي.

أقولها للمرة الألف: لم يبق في صدري شيء ضد بعثي أو مساهم في الثلاثين عاماً مِن حكم البعث، بعد أبريل (نيسان) 2008، بل التقيت بكلِّ شفافية مع مسؤولين في حزب النِّظام السابق، ومَن ظل مصراً على رأيه، واعترف بقسوة النِّظام الذي كان هو جزءاً منه، وليس أكثر مني مَن كتب مِن أجل مصالحة حقيقية، تغلب فيها روح التَّسامح على روح الانتقام، وأن يُصار إلى قضاء عادل يفصل في قضايا الدِّماء، حتى كتبت :”لا تعدموا صداماً”.

كُتاب نعرفهم، حق المعرفة، كيف كانوا يدافعون عن السَّيف وهو يهبط على الرِّقاب، وبعد أن انتهى الرخاء العراقي في لحظة الإقدام على احتلال الكويت، قلب مَن قلب واكتشفوا لحظتها أن النِّظام دكتاتوري، وأن صدام حسين كان مبيراً وشتت كلمة العرب، ومنهم مَن ظل متواصلاً معه تحت غطاء الأمة العربية ومعاداة إسرائيل، بينما وصل العراقيون إلى لحظة، وجدوا أنفسهم مجرد أكباش من أجل تحرير فلسطين.

فالأقلام التي تريد من صدام تحرير فلسطين، لا بد لها أن تجعل كلَّ مَن يعترض على هذا النِّظام، وإن اعترض على غلاء ارتفاع الأسعار، مجرماً، وإذا سفك دمه فهو تطهير للعراق مِن العملاء، لذلك كتب أحدهم وهو يتغزل بسيرة صدام حسين إن الذين قتلوا في الحفلات الدَّموية من البعثيين أنفسهم كانوا متآمرين، وبالتالي قتلهم كان حلالاً، وهذا ما كانت تنشره المجلات التي تصدر بأموال العراق بالعواصم الأوروبية.

مثل هذا النَّموذج لم أتمكن مِن مجاراته أو أكذب على نفسي في مجاملته، ففي دعوةٍ لحوار إذاعي مشترك بين أربعة، ووجدت أحدهم أخذ مكانه على الطَّاولة نهضت من عليها، وسط استغراب مُقدم النَّدوة، ولما استفسر مني قلت له: لا أستطع الجلوس مع مَن بنى مجده الإعلامي على حسابنا ودمائنا، نحن والنِّظام السَّابق ضحاياه معاً، فهو أحد الدافعين للنِّظام لممارسة القسوة، فقام بدور جوزيف غوبلز مع هتلر (ت 1945)، يكذب ويكذب.

لم أترفع عن مشاركة هذا وأمثاله، لأنه وقف مع النِّظام السَّابق؛ بل لأنه ما زال يسخر مما آلت إليه بلادنا، ويستهزئ بدمائنا، إنه رجع خطوتين وأخذ يشتم الدكتاتوريات، وهو كان أحد حاملي مباخرها. فكيف لي مجاملة منَ يعدّ تفجير مخبز في الصباح الباكر، وإحالة أطفال إلى أشلاء، لم يستطع الأهل التعرف على هوياتهم، أنها مقاومة! تلك مشكلة لدى هؤلاء بل مثلهم مصابون بأمراض نفسية، وأولها الطموح إلى المال عبر الدَّم. فما الفرق بين هذا الشعور الجهنمي والانتحاري الذي فجر المخبز!

أعاد لي ذلك الموقف وتذكر تلك الأقلام، التي حبرتها الدِّماء، ما كُتب عن مقابلة علي الدباغ، الناطق السَّابق باسم الحكومة العراقية، مع طارق عزيز زير الخارجية العراقي الأسبق. يبدو أن هؤلاء نسوا أن النِّظام العراقي السَّابق قد سقط منذ عشرة أعوام، وتبدلت الدُّنيا تبدلاً كاملاً بالعِراق، حتى ذَكرهم سجن طارق عزيز بما حدث. أحدهم كتب عن ظروف اعتقال عزيز السيئة، وكنت أتعاطف معه لو أنه ذكر مرة واحدة عن سجين عراقي في العهد السابق، أو تحدث عن المحاكم الميدانية، أو مَن ظل لواحد وعشرين عاماً مختبئاً تحت الأرض، أو ما يؤخذ بالوزر من الأقارب، لندع الأحزاب التي عارضت النِّظام جانباً ونتحدث عن رفاق الرئيس لا غيرهم، فكم قُتل منهم؟

اللافت للنظر أنهم سمعوا أو قرأوا حديث طارق عزيز، وكم ورد فيه من الاعتراف بجنون النظام السَّابق، حتى قال بالحرف: إن صدام كان مريضاً “جسمياً ونفسياً” قبل احتلال الكويت، وليس له القدرة على اتخاذ الموقف الصائب، وإنه أخطأ، وتحدث عن سذاجة عزة الدُّوري وطه ياسين رمضان (اعدم 2007)، وعنجهية حسين كامل (قُتل 1996)، وكم تحدث عن سكوت القيادة في اتخاذ القرارات، وأنه الوحيد الذي: “لم يحبذ احتلال الكويت”، وقال صدام يتحمل ما وصل إليه العراق من حرب وحصار، فكان عليه أن يتخذ موقفاً مثل بقية الدُّول، وليس العراق وحده تضرر مِن خفض سعر النفط إلى سبعة دولارات آنذاك!

على أية حال، لا يجوز الكيل بمكيالين، النِّظام السابق عمت سيئاته على العراقيين وغير العراقيين، ومظالمه لا يسترها غربال، لكن الإصرار على أن العراق كان يعيش الجنة في زمنه، فأولئك يقصدون أنفسهم، وقرب ممارساته مِن أفكارهم ومنافعهم، وعند هذا الحد تقف أقلامهم.
إن الصُّورة السيئة، التي وصلها العِراق من فساد وخراب، على يد الحاكمين الجدد، لا يعني أن مداحي النِّظام السابق كانوا على حق، أليسوا هم المشاركين في ما وصله إليه العراق، عبر التهليل للمجازفات والمغامرات السياسية في صحفهم وكتبهم وإشاعة ثقافة العنف بتمجيده. ما جاء من تعليقات على مقابلة الدباغ لعزيز، بكاء على “البطل” الذي يحرر لهم فلسطين على حساب شعبه وبلده، تلك شعارات أرهقتنا وأفرغت بلداننا إلا من البطولة الفارغة.

لا أرى في المقابلة ما يثير الاستغراب، والواضح جداً أن طارق عزيز لم يكن مجبراً، وأعطي الفرصة في التعبير عن الصغائر والكبار، خلاف ما كان يُعرض من اعترافات على الشاشات تدين صاحبها، وبعده يلاقي مصيره، فما كذب به بالقوة يصبح تهمة عليه، ولو أراد مداحو العنف أن نسرد لهم الأسماء لفعلنا، فهي كثيرة، على عدد المؤامرات المفبركة.